
(تغيّرت رائحة الزمن) – قصة رومانية قصيرة
قصة رومانية قصيرة
ترجمة : د. عصام محجوب
نحن آخر عائلة لديها أبقار في القرية، ويشكو الجيران من رائحة حوش منزلنا وحديقتنا الكريهة، كما يقولون.
يفتح فاسيلي بوّابة الحظيرة في الخامسة صباحًا، كما يفعل كل يوم منذ ثلاثين عامًا. تستقبله البقرتان ميوارا وبرونا بنظرات رقيقة وخوار امتنان.
خلفهما، وبصبر معهود، تنقر الدجاجات العشر العُشب وما فيه، وتصدر أصواتها المميّزة. والماعز زانا، تَشدّ كُمّ قميص فاسيلي، مُدرِكةً أنّ وقت إطعامها قد حان.
من نافِذة المنزل المجاور، تتابِعه جارته الجديدة بنظرة لوم ومعها لؤم.
انتقلت آنا بوبيسكو، قبل ثلاث سنوات من المدينةِ للقريةِ، عندما اشترت منزلاً جرى تجديده بنوافِذٍ حديثة مُزدوجة الزجاج عازِلة للصوت والحرارة، مركّبة على إطار من البلاستيك المُقوّى، كما جرى تغيير السياج الذي يحيط بالمنزل ناحية الطريق من سياج اخضر عليه نباتات مُتسلِّقة إلى آخر معدني مطلي باللون الأبيض.
قالت له الأسبوع الماضي: “سيد فاسيلي، ألا يمكِنك نقل هذه الحيوانات إلى مكان آخر؟ الشارع بأكمله كريه الرائحة. لا يستطيع أطفالي الخروج إلى فناء الدار بسبب الرائحة الكريهة”.
بالنسبة لفاسيلي، رائحة الإسطبل ليست كريهة. إنّها رائحة طفولته، رائحة الصباحات التي كان يذهب فيها مع والده لحلبِ الأبقار، ورائحة الأمسيات التي كان يساعِد فيها بإعادة الماشية من المراعي. إنّها رائحة عالَم يتلاشى ببطء، لتحِلّ محله سيارات متوقِّفة في مساحات كانت تنمو فيها زهور عباد الشمس وسيقان الذُرة الطويلة الخضراء.
“أبي، رُبّما يكون الجيران على حق”، يقول له مارين، ابنه الأربعيني، وهو يساعِده في حمل التبن الجديد. ويضيف: “بإمكانك بيع الأبقار والتمتُّع بتقاعُد مُريح وبهدوء. لمْ يعُد الأمر كما كان في الماضي”.
لكن فاسيلي لا يستطيع تخيُّل صباحه دون سماع خوار الحيوانات، وكيف ينسى دفء الإسطبل أيام الشتاء الباردة، وسعادة الماشية عندما يحضر لها الذرة المطحونة. وحدهم الذين عاشوا مع حيوانات أليفة في فناء الدار يدركون أنّها ليست مُجرّد “مُمتلكات”، بلْ أفراد من العائلة يعطونك سببًا للاستيقاظ في الصباح وتفقّدهم قبل أنْ تهجع للنوم.
خلال السنوات الخمس الماضية، تغيّرت جميع منازِل الشارِع الذي تقيم فيه اسرة فاسيلي. أصبحت الإسطبلات المُلحقة بها، مرائباً، ورُصفت المساحات امامها والتي كانت تشكِّل بستاناً جميلاً، وتحوّلت لمواقف سيارات الابناء والاحفاد القادمين من المدينة، واستُبٍدِلت أحواض الخُضراوات بمروج وأزهار الزينة.
عائلة فاسيلي هي الوحيدة التي لا تزال تعيش كما تعوّدت وعلى التقاليد التي توارثتها.
“هل تعلم أنّ العُمدة قال إنّه سيغرّمنا إذا لَمْ نلتزِم بلوائح النظافة الجديدة؟”، تسأله زوجته ماريا، وهي تصبّ الحليب الطازج في علبٍ من الفولاذ المقاوم للصدأ. وتواصِل قبل أنْ تسمع منه: “يقول أمامنا أسبوعين للامتثال أو نقل حيواناتنا”.
يعلم فاسيلي أنّ القواعد قد تغيّرت. أصبحت قريتهم القريبة من مدينة كلوج أشبه بضاحية، يعيش فيها أناس يعملون في المدينة ويريدون الهدوء والنظافة وفرض نُظم معينة وجديدة مع مجلس بلدي القرية.
لا أحد يفهم لماذا يُعقّد أحدهم حياته بتربية الحيوانات بينما يُمكِنه شراء الحليب من المتجر واللحوم من السوبر ماركت.
فاسيلي لا يستطيع أنْ ينسى ضحكات حفيدته وهي صغيرة حينما كانت تأتي معه لإطعام الدجاج. وكيف كانت تستمتع بشرب الحليب الدافئ، مباشرة من البقرة، وكيف تعلّمت تمييز كل حيوان بشخصيته واسمه – ميورا ألطف الأبقار، وبرونا الأكثر تدليلًا، والدجاجة الحمراء التي كانت تخرج من القنِّ باستمرار لاستِكشاف ما حوله، فتجري حفيدته خلفها.
“رُبّما علينا أنْ نحاول التحدُّث مع الجيران”، اقترحت ماريا وأردفت: “دعونا نشرح لهم أنّ هذه الحيوانات جزء من حياتنا”.
في المساء، على مائدة العائلة، ينظُر فاسيلي من النافذة إلى الإسطبل المضاء بمصباح أصفر والحيوانات تستريح، راضية وهو كذلك بعد يوم عمل طويل في الفناءِ الذي يحيط بالمنزل، فيما جارتهم الجديدة، آنا بوبيسكو، وبخرطوش يقذِف بشِدّة الماء ورغوة الصابون، تغسِل سيارتها من طراز بي إم دبيلو – BMW، وتُجهِّزها لتذهب بها صباح اليوم التالي إلى عملها في المدينة.
عالمان مُختلِفان، لمْ يعودا يتفاهمان. عالَم يتطلّع إلى المُستقبل، نحو الراحة والحداثة. وآخر يتمسّك بالجذور والتقاليد، بأسلوب حياة يبدو غريبًا أكثر فأكثر.
“أبي، إنْ كُنت تهتم بالحيوانات حقّا، فبإمكاننا إيجاد مزرعة خارج القرية”، يصِرّ ابنه مارين قائلاً، ومضيفاً: “لنْ يُزعِجك أحد هناك”، بينما والده فاسيلي يُدرِك أنّ الأمر لا يقتصِر على الحيوانات فحسب، إنّما يتعلّق بالحقِّ في عيش الحياة بالطريقة التي تعلمها من والديه وأجداده، ويتعلّق أيضاً بالسؤال: هل يعني التحديث بالضرورة التخلي تمامًا عن كل ما سبق؟
في تلك الليلة، بينما كان يستمع إلى خوار الحيوانات الهادئ، تساءل فاسيلي إن كان، بعد عشر سنوات، سيبقى في القرية منزلاً يصيح فيه ديك عند شروق الشمس، أمْ ستصبح جميعها جميلة، بأسوار بيضاء وداخلها سيارات تلمع بألوان متوهِجة، ولكنها ستكون منازلاً بلا روح تُضفيها عليها الحيوانات الأليفة المُنتِجة والطيور؟
رُبّما كان جاره الثاني مُحِقّاً حين قال له: “لقد تغيّر الزمن وعلينا التأقلُم”. لكنّه لا يزال يعتقِد أنّ عالمًا بلا حيوانات رافقتهم لسنين طويلة سيكون أكثر فقرًا، حتّى لو كانت رائحته أطيب ومظهره أجمل.
بوخارست – رومانيا
13 يوليو 2025
——————————————-
قصة رومانية قصيرة منشورة علي موقع ” Tăcerea Cuvintelor” واختار لها المترجم هذا العنوان