
د.الواثق كمير يكتب: إضاءات على بيان الرباعية!
الواثق كمير
في الثاني عشر من سبتمبر 2025، صدر بيان مشترك عن دول مجموعة الرباعية (الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة العربية السعودية، جمهورية مصر العربية، ودولة الإمارات العربية المتحدة)، وقد طغى هذا البيان على مجريات الأحداث المتلاحقة في البلاد خلال الأيام الماضية. فقد تناولته أقلام كتاب الرأي، وتفاعلت معه القيادات السياسية بالتقريظ أو التقريع، كلٌّ وفق موقفه السياسي، لا سيما فيما يتعلق بـ”خارطة الطريق” المقترحة لوقف الحرب. ولم تخلُ حتى جلسات الأنس من نقاشات ساخنة حول فرص نجاح هذه المبادرة أو إخفاقها.
وقد تابعتُ عن كثبٍ ردود الأفعال المتباينة تجاه مخرجات البيان وما تضمنه من خارطة طريق، عبر مختلف وسائل الإعلام التقليدية والرقمية، ومنصات التواصل الاجتماعي، وما صاحب ذلك من تهويل وتضخيم. وبدون الخوض في تحليل الآراء ووجهات النظر المتعددة، أو ما يحمله البيان من تناقضات، أكتفي هنا بمساهمة مقتضبة تسلط الضوء على نقاط قد تُسهم في الوصول إلى فهم أعمق لجوهر البيان.
بشكل عام، لا شكّ أنّ بيان المجموعة الرباعية قد زادَ من حِدةِ الاستقطاب السياسي وعمّق الانقسامات بين القوى السياسية والمجتمعية حول ثلاث قضايا رئيسية: الموقف من قوات الدعم السريع، الموقف من الإسلاميين، والموقف تجاه المجتمعين الإقليمي والدولي. والسؤال الآن: كيف يمكن للرباعية المضي في تنفيذ خارطة الطريق المقترحة: هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر، ومن ثمّ قف دائم لإطلاق النار، مما يقود إلى عملية انتقالية شاملة وشفافة تستغرقُ تسعةَ أشهر؟
وفي ظني، أنّه من خلال قراءتي لردود أفعال ومواقف القوى المؤيدة للجيش، وخاصة الإسلاميين، يبدو أن الوقت لم يحن بعد حتى لوقف إطلاق نار مؤقت، طالما أنّ حصارَ الفاشر ما زال مستمراً. فهذه القوى ترى أن بيان الرباعية جاء في توقيت مقصود، عندما كان الجيش يحقق انتصارات ويحرز تقدما،ً خاصة في جبهة كردفان. ومن المعلومِ أنّ التوصلَ إلى وقف دائم إطلاق النار مرهون بتوزان قوة المتحاربين على الأرض والوصول إلى نقطة تُحتمُ إيقاف القتال.
ومن جِهةٍ أخرى، فما يُثير القلق أنّ العقوبات الأمريكية المفروضة على جبريل إبراهيم وعلى “كتيبة البراء بن مالك” أشبه ما تكون بصب الزيت على النار، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من تعقيد وتفاقم الصراع في البلاد بدلاً من الإسهام في حله.
من جهة أخرى، عمدت غالبية القوى السياسية المعارضة إلى توظيف بيان المجموعة الرباعية ضمن سياق الخصومة السياسية والصراع مع التيارات الإسلامية وحلفائها، دون أن تُبلور مقاربة موضوعية أو موقفًا متزنًا تجاه البيان. ومع ذلك، فإنّ الشعب السوداني يمتلك إرثًا غنيًا وتجربة طويلة في التعامل مع المجتمع الدولي في إطار الأزمة السودانية، وهو ما يستدعي توظيف هذا الإرث بصورة رشيدة تخدم المصالح الوطنية العليا. لقد ظللت أؤكد مرارًا أنّ التعويل على المجتمع الدولي، دون بناء رؤية وطنية متماسكة، يُعدّ رهانًا غير مضمون النتائج. فقد أخفقت كل من الرباعية والثلاثية والترويكا في التوصل إلى تسوية سياسية ناجعة، الأمر الذي ساهم في تفاقم الأزمة وصولًا إلى اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023.
أما الموقف الرسمي للحكومة من بيان الرباعية فقد عبرّ عنه التصربح الصحفي الصادر من وزارة الخارجية السودانية، في 13 سبتمبر الجاري. وبالرغم من ترحيب التصريح بهذا الجُهد، إلاّ أنّه سجلّ عدداً من تحفظات الحكومة على عدد من النقاط التى وردت في البيان: رفض التدخلات الخارجية في الشأن السوداني، استنكار مشاركة الإمارات المتهمة بالتورط المباشر في الحرب عبر دعم ميليشيا الدعم السريع وعدم أهليتها للوساطة، انتقاد الولايات المتحدة في تغاضيها عن تدفق السلاح الأمريكي عبر حلفائها إلى الميليشيا، مما يجردها من المصداقية، ورفض التفاوض مع المليشيا. فالحكومة ترى أنّ التوقيتَ غير مُناسب طالما ظل الوضع العسكري لم يُحسم بعد.
صحيحٌ أنّ القراءة الواقعية للمشهد تؤكد أنّ الرباعية تقف ضد أي نزعات نحو الانفصال لتحالف “تاسيس”، لكنها في الوقت نفسه تُدرك أنّ قوات الدعم السريع ستطلع بدورٍ نشطٍ في مفاوضات وقف إطلاق النار لحماية بعض مصالحها. ولا أرى أنّ هذين الموقفين متناقضان. فوقف إطلاق النار المقترح هدفه تسهيل المساعدات الإنسانية، وهو ما ينسجم مع موقف الحكومة من هُدنة السبعة أيام في الفاشر التي اقترحها الأمين العام للأمم المتحدة وافق عليها رئيس مجلس السيادة في 27 يونيو 2025.
أما العقوبات الأمريكية على د. جبريل إبراهيم، وزير المالية، وفيلق البراء بن مالك، والتي تزامنت مع بيان الرباعية، فهي مفهومة من منظور المصالح الأمريكية. ويبدو أنّ علاقة السودان مع إيران هي السبب المباشر لفرض هذه العقوبات، على الرغم من أنْ البيان حملَ رسائل مُزدوجة بين موضوع العلاقة مع إيران ومصالح الحركة الإسلامية السودانية (غامضة التعريف والملامح).
ومن منظورٍ آخر، فربما تكون الفقرة ما قبل الأخيرة من بيان الرباعية هي الأجدر بالاهتمام إذ أنّها تفتح نافذة للنقاش والحوار بين الفرقاء السياسيين السودانيين والوصول لقدرٍ من التفاهم لوقف وإنهاء الحرب:
“وفي هذا الصدد، يدعم الوزراء جهود المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة من خلال عملية جدة لتحقيق وقف دائم لإطلاق النار في السودان، وكذلك جهود مصر المتعلقة بمنتدى القوى المدنية والسياسية السودانية، الذي عُقدت جولته الأولى في القاهرة في يوليو 2024.”
خلاصة
في رأيي أنّه من الأجدر التعامل مع مخرجات مشاورات الرباعية وخارطة الطريق المطروحة بوصفها “عرضًا” لا “فرضًا” بالإكراه. وفي نهاية المطاف، يبقى القرار في يد حكومة السودان وقوات الدعم السريع، سواء بالقبول أو الرفض. وللمفارقة، وبعد أن أنهيت صياغة مسودة هذه الكلمة، تابعت تصريحات كبير مستشاري الرئيس الأمريكي خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي (أديس أبابا، 18 سبتمبر 2025). وقد أكد السيد مُسعد بولس أن الرباعية لا تفرض حلولًا، بل تُعد منصة داعمة للمبادرات الأخرى، وليست بديلًا عنها، وعلى رأسها الاتحاد الأفريقي. وأضاف أن القرار النهائي يظل نابعًا من إرادة السودانيين أنفسهم. وهذا التصريح يعزز القناعة بأن الرباعية، في جوهرها، لا تملك صلاحية فرض خارطة الطريق المعروضة بأي حالٍ من الأحوال.
ومن المهم الإشارة، في هذا السياق، إلى أن المجموعة الرباعية تفتقر إلى التماسك الداخلي بين أعضائها، إذ تشوب علاقاتهم خلافات متعددة، سواء في مقارباتهم لحل الأزمة السودانية أو في مواقفهم تجاه أطراف الصراع. هذا التباين يُضعف موقفهم الجماعي، ويجعل العرض المطروح هشًا، يفتقر إلى آليات تنفيذ فعّالة. فهذه الخلافات بين مواقف الدول المشاركة هي التي عطلت اجتماعات الرباعية لأكثرِ من مرة. وأيضاً، لا يمكن إغفال أن الإدارة الأمريكية نفسها تفتقر إلى استراتيجية واضحة أو خطة متكاملة للتعامل مع الوضع في السودان، وهو ما يعكس حقيقة أن السودان لا يُعدّ أولوية حقيقية لإدارة الرئيس ترامب، إلا في سياق التنافس الجيوسياسي مع روسيا والصين في منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وفي القارة الأفريقية عمومًا.
لذا، يتعيّن على السودانيين، بمختلف أطيافهم، التعامل مع هذه المبادرات بحذر وموضوعية، دون أن يمنعهم ذلك من الانخراط الإيجابي مع أي جهد يسهم فعليًا في وقف الحرب، شريطة ألا يكون ذلك مدخلًا لفرض إرادة خارجية تهدف إلى تغيير موازين القوة الداخلية.
وأختم، بأنه من منظور براغماتي، إذا رأت الحكومة السودانية أن الخيار العسكري لا يزال يُحقق نتائج أكثر جدوى من التسوية المتفاوض عليها، فمن الضروري أن تُخطر الإدارة الأمريكية والمجموعة الرباعية بأن العرض المطروح لا يستوفي متطلبات المرحلة، ويتعارض مع المصالح العليا للدولة السودانية. أما إذا تعذّر اللجوء إلى الخيار العسكري، فقد يُعدّ مقترح الرباعية، رغم نواقصه، خيارًا قابلًا للتعاطي معه، ولو بصورة مؤقتة.