
قمع الصحافة الحرة في السودان: استهداف لينا يعقوب نموذجاً
مهدي داود الخليفة
منذ اندلاع الحرب في السودان، ظل الإعلام ساحة مواجهة لا تقل خطورة عن ميادين القتال. فالطغاة يخشون الكلمة الحرة أكثر من خشيتهم للسلاح، لأن الحقيقة تكشف المستور وتفضح المستبدين أمام العالم. وما قرار سلطة بورتسودان الأخير بإيقاف الصحفية ومديرة مكتب قناتي «العربية» و«الحدث» لينا يعقوب وسحب تصريحها الصحفي، إلا دليل إضافي على ضيق النظام بالصحافة المستقلة ومحاولته المستمرة لتدجين الإعلام وتحويله إلى بوق للسلطة.
يبدو أن السبب الرئيسي لسحب الترخيص من لينا يعقوب لم يكن كما ورد في بيان وزارة الإعلام، بل يعود إلى كشفها لمكان إقامة الرئيس السابق عمر البشير، المطلوب في قضايا جنائية داخلية ومطلوب أيضاً لدى المحكمة الجنائية الدولية.
فقد كشفت تقارير “الحدث” أن البشير يقيم داخل استراحة فاخرة تتوفر فيها كل سبل الراحة، من خدمات طعام وإنترنت وطاقم من الضباط، في وقت يئن فيه ملايين السودانيين تحت وطأة الحرب والنزوح والجوع.
هذا الكشف أحرج السلطة التي لا تزال تخفي عدداً من مساجين النظام السابق، وتحتفظ بمطلوبين للعدالة الدولية بدلاً من إعادتهم إلى السجون أو تسليمهم للجنائية. فالمشكلة إذن ليست في لينا يعقوب التي قامت بدورها المهني، بل في الحكومة التي تضلل الرأي العام وتخفي الحقائق.
لينا يعقوب ليست مجرد مراسلة إعلامية ، بل هي واحدة من أبرز الصحفيات السودانيات اللواتي استطعن اختراق الحواجز والنجاح في الإعلام العربي والعالمي. بجرأتها ومهنيتها، وضعت اسمها في سجل عريق بجانب أسماء سودانية لامعة مثل: الطيب صالح، زينب البدوي، صلاح أحمد محمد صالح و ايوب صديق وغيرهم ممن حملوا رسالة السودان إلى الفضاء الدولي.
لقد كانت تغطياتها شاهداً على جرائم الحرب والانتهاكات من طرفي الحرب ، وصوتاً للضحايا والمحرومين. لم تكتفِ بالنقل التقليدي، بل أصرّت على أن يعرف العالم حقيقة ما يجري، حتى وإن دفعت ثمن ذلك تهديداً مباشراً لحياتها.
البيان الصادر عن وزارة الإعلام والثقافة والسياحة في بورتسودان بتاريخ 19 سبتمبر 2025 جاء محمّلاً باتهامات فضفاضة: “بث معلومات غير دقيقة”، “نشر روايات مجهولة”، “التحريض”، وتحميلها مسؤولية تهجير المواطنين. بل ذهب أبعد من ذلك بالحديث عن “استخدام الذكاء الاصطناعي” لنشر أخبار الحرب.
لكن الحقيقة أن هذا القرار لم يصدر حرصاً على المهنية، كما تدّعي الحكومة، بل خوفاً من المهنية ذاتها، ومن صحفية تلتزم بالمعايير الدولية للصحافة الحرة.
نقابة الصحفيين السودانيين أدانت بوضوح هذه الحملات، معتبرة أن القرار انتكاسة خطيرة لحرية الصحافة وتقويضاً لحق المجتمع في الحصول على المعلومات. وأكدت النقابة أن القرار يفتقر إلى الأدلة الملموسة ويثير تساؤلات حول دوافعه، محذرة من أنه يعزز العداء تجاه الإعلاميين، وطالبت النقابة بالتراجع الفوري عنه وضمان سلامة الصحفيين.
كما وثّقت النقابة أكثر من 500 انتهاك ضد الصحفيين منذ اندلاع الحرب، تشمل الاعتقال والضرب والطرد، وهو ما يبرهن أن الحملة ضد الاستاذه لينا ليست استثناء، بل جزء من منهجية متكاملة لإسكات الأصوات الحرة.
إن قرار إيقاف لينا لن يُسكت صوتها ولن يُطفئ وهج الحقيقة التي اعتادت أن تنقلها. بل سيضاعف من قيمتها ورمزيتها كصوت إعلامي حر يوجع الطغاة ويقلق الديكتاتوريات. ستظل الصحفية لينا يعقوب رمزاً للمرأة السودانية القوية التي اقتحمت مجالاً صعباً ونجحت فيه، وواحدة من القامات الإعلامية التي تشرّف السودان عالمياً.
إن الدفاع عن لينا يعقوب اليوم هو دفاع عن كل صحفي وصحفية في السودان، وعن حق المواطن في المعلومة، وعن حرية الإعلام كجزء أصيل من معركة الشعب السوداني من أجل الحرية والسلام والعدالة.
فالطغاة يملكون السلاح والبيانات الرسمية، لكن الشعوب تملك الحقيقة. ولينا يعقوب ستظل واحدة من أبرز حامليها، مهما حاولوا إخراس صوتها.