
جنيف تُنجِب واشنطون: تناسل أمكنة ميلاد الخطاب، ذات المركب والأوديسة والحمولة
صلاح الزين
“أعلن مستشار البيت الأبيض، مسعد بولس، عن اجتماع للدول الرباعية، التي تضم مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة الأميركية، على مستوى وزراء الخارجية، نهاية تموز/يوليو 2025، لبحث سبل وقف الحرب في السودان” (وكالات).
مما يلفت النظر عدم دعوة ممثلي خطاب حرب أبريل 2023، خطاب الحرب ذو القوام “الجانيوسي” برأسَيْهِ الفلولي والجنجويدي.
قلنا ونوَّهنا في أكثر من مقال ومقاربة أنْ ليس لتبديل الجغرافيات والأمكنة والسواحل أية ارتدادات على حمولة الخطاب، خطاب الحرب، وتغيير بِنْيته فيما يقول ويُنْشِد ويأتلف حتى في اختلافه. فاختلافه في الممارسة والقول والتنصيص هو هو إحدى أدواته في محاربة الخلاف الذي به يكون الاختلاف هو الوجه الآخر لائتلافه وتناسق قوله:
كأنْ تحضر دولة الإمارات ممثَلةً بوزير خارجيّتها بينما سيغيب عن ذات القاعة، قاعة الاجتماع المزمع، ممثلو رأسَيْ “جانيوس”: الجنجويد والفلول. فحضور الأول، دولة الإمارات، لا ينفي غياب الآخر، رأسَيْ “جانيوس”، ومن ثَمَّ ضرورة إعادة تعريف مُفرَدَتَيْ الحضور والغياب كَدالتَيْن لا ينفيان بعضهما البعض: غيابٌ يحضر وحضورٌ يغيب.
تتعدد وتتغاير الأمكنة والطقس، الشخوص وربطات العنق والعطر، ومركب أوديسة خطاب حرب أبريل 2023 يحمل ذات البضاعة ويَمخُر في ذات الماء بأشرعةٍ تَنفُخُها ذات الريح تحت إمرة ذات البوصلة والربان.
انفرطت سُبّحة الأسماء وتناثرت على خرطة الجغرافيا والأمكنة: (قحت، تقدُّم، صمود، تأسيس)، من أديس أبابا انتهاءً بنيروبي من غير القدرة للخطو خارج بنية مستويات خطاب حرب أبريل، ذو الرأس الجنجويدي وتوأمه الفلولي، والاكتفاء بتغيير الاسم ومكان الميلاد. رأسٌ بحكومة الأمر الواقع و الراس الآخر يبحث عن واقع ليكون على رأسه!!!
هكذا تم تنزيح بِنْية الخطاب من أطروحته الخطابية ومحمولاتها إلى تفرعات في التسمية والأسماء تخفي أهداف الخطاب واستراتيجياته ليقوم الاسم مقام بِنْية المحمول، الخطاب، وتغدو الممارسة الخطابية والسياسية أَدخَل في صالونات الأزياء وتسويقها لعرضها لجمهور مشدوه بتبدل الألوان لا دلالات اللون وضربة ريشة المصمم ونزوقات الفنان!! فقد تخاصرت بِنْية مستويات خطاب حرب أبريل 2023، في تغايرات أسمائها وتَبَدُّل أمكنة ميلادها، في الرؤية إلى الحرب كحرب بين رأسَيْ “جانيوس”: الجنجويد والفلول لا الروؤية إليها كحربٍ تَوَحَّدَ فيها الرأسان ضد انتفاضة الديسمبريات والديسمبرييين في 2018. فأصبح الرأسان يرتديان ثوبين وينطقان بلسانين ليقولان ذات القول مردوفان في ذات السرج والدابة. كانت حربهما حربَ حَتْمِ ضرورة لا محالة من تفجيرها وخوضها وصولاً إلى، مرة أخرى، إلى موقع مبتدأها: شراكة السلطة والثروة. والأخيرتان، تاريخياً، تتعدد السبل لبلوغهما وإنْ اختلفت الدروب ومتانة نسيج النعال وهشاشتها. فالخطاب، أي خطاب، لا يخطو بأرجلٍ من دخان بوصْفِهِ بنيةً وقولاً ومعنىً تحمله رافعات وسقالات طبقية وفكرية وسياسية.
وفي سعيِهِ ذاك وبوعيٍ لا تَنقُصَهُ الدِرْبة والمهارة الخطابية وتكتيكاتها لم يوفِّر الخطاب طَرْقَ كل الأبواب وسَلْك كل الدروب وارتداء كل الأزياء التي تؤدي به إلى أهدافه ومراميه السياسية.
وقد شمل ذلك، فيما شمل، تبديل الأسماء والمواثيق ومخرجات اللقاءات والمؤتمرات حتى أضحت المواثيق ونصوص الاتفاقات ممارسةً نَصّيّةً تشتغل على بِنْية النص بوصفِ الممارسة السياسية فعلاً كتابياً معنية بضبط اللغة والترقيم لا معاش العباد وشؤون كبريائهم. وما انشطار “تقدُّم” الأخير إلى نصفين: “صمود” و”تأسيس” إلا تمويهاً خطابياً لوقوفه على ذات السقالة التي ترى إلى مركب خطاب حرب أبريل 2023 كحربٍ بين طرفٍ جنجويدي وآخر فلولي وهُما يبحران في ذات الماء ويَنشدان ذات المرسى، مرسى شراكة السلطة والثروة كما ذُكر سابقاً.
بعد ارتحالات عدة بين الأمكنة وغابة الأسماء رسى مركب الخطاب، خطاب حرب أبريل 2023، بعد تطواف مرهق ومديد، على شواطئ نيروبي لتُنْجِب تغريبته “النيروبية” انفلاق برتقالة خطاب الحرب إلى نصفين، صمود وتأسيس، للحديث، مرة أخرى، بلسانين داخل بنية ذاتِ خطابِ الحرب كما لو أنهما لا يَنطقان بذات اللسان وينظران إلى حرب أبريل بذات عين عقل الخطاب. يقول أحدهما ويصمت الآخر ليكون الصمت والنطق هو هو قَوْل وصمت خطاب الحرب وتمويهاته الخطابيّة السياسية. إنها لعنة العقل وقصوره عندما لا يعقل سيرورات التاريخ ومآلاته فيرى ما يود ويقول ما يحب.
هكذا ألقى قارب الخطاب مرساة أوديسته على الشواطئ الأمريكية لتضاف إلى مراسي أخرى: أديس أبابا، نيروبي، جنيف وأخرى قادمة، من يدري، على روزنامة القارب وبوصلة شراعه.
وفي تطوافه ذاك يتبادل خطاب حرب أبريل 2023 المواقعَ داخل بنية خطاب الحرب، ما تقاصَرَ عنه أحدهما ينهض الآخر على تلافي قصوره كمستوياتٍ بنيوية في بنية خطاب الحرب المحمول على ذات الرافعات الطبقية والسياسة والفكرية.
إنها قرابة النسب الخطابي والسياسي بوصفها إخوةً خطابيةً تستلزم تآزر مستويات بنية الخطاب في تكتيكات الخطاب واستراتيجياته ومهاراته ودِربَتِه فيما يبدو تفككاً وانحلالاً. بذلك تتبادل مستويات بنية الخطاب المواقع داخل ذات البنية بين ما هو تناقض رئيسي وآخر ثانوي حتى يبدو معه التناقض الأول كتناقضٍ جامعٍ وبنيوي مسيطرٍ على مفاصل بنية خطاب الحرب بوصفها حرباً بين رأسَيْ “جانيوس” الجنجويدي والفلولي لا حرباً فَجّرها ذاك “الإله” لمحو وإفناء حلم الديسمبريات والديسمبريين بوطن العدالة والحرية والسلام. يتوسل هذا الإيهام بتصعيد التناقض الثانوي إلى مقام تناقضٍ رئيسي عدة طرق منها الإيعاز بأن ما بين نصفَيْ برتقالة الخطاب، صمود وتأسيس، هو تناقض في الرؤية إلى خطاب الحرب وتفكيك بنياته بينما كلاهما يَريان إلى خطاب الحرب كحرب بين صنوين جنجويدي وفلولي، توأمان يجمعهما ثدي الرضاعة والمشيمة.
وفي ما يبدو اختلافاً وصراعاً بينهما لا يعدمان اللجوء إلى مكر الخطاب وحِيَلِهِ في رفد حجتهما بصكِ مواثيقٍ واتفاقاتٍ لا تَخرج عن كونها استبدال الممارسة السياسية بممارسة نَصية لتخرج السياسة، كعلم قراءة السيرورات التاريخية المعنية بشؤون المعاش والجَمال، إلى سياسة لا تقرأ التاريخ بقدر ما ترى إلى سيروراته كبِنْيةٍ نصِّيِّةٍ قوامُها اللغة والإزاحات النصِّيِّة التي تقول ذات قول ما أبدلته في بنية النَص المكتوب سابقاً والذي سيليه وصولاً لإحلال كاتب النصوص ذو المهارات التِقَنية والكتابية محل السياسي والمُفكِّر القادر على قراءة التاريخ في إفصاحه وسكوته.
وسط هذه العتمة السياسية والتعاطي مع خطاب حرب أبريل 2023 كحربٍ بين الجنجويد والفلول، عطفاً على لقاء جنيف عام 2024، يأتي لقاء واشنطون في نهاية شهر يوليو. اللقاء الذي لم يُدْعَ له طَرَفا الحرب بل دُعِيَت إليه دولة الإمارات ليكون الغياب في كامل حضوره وإنْ غابت أقدامه ونعاله وما يرتديه!!!
إنه مكر رأس المال المعوَلم، حيله ومصالحه، في إقصاء الطرف المعني بلقاء واشنطون إنْ كان طرفاً آخر في الحضور، دولة الإمارات، يملك كامل الأهلية واللسان ليقول قول الغايب والمُقصَى. مما يقتضي، كما ذُكِر في مفتتح المقاربة، ضرورة إعادة تعريف مفرَدَتَيْ الحضور والغياب كَدالتَيْن لا ينفيان بعضهما البعض: غيابٌ يحضر وحضورٌ يغيب.