
بروكسل: محاولة يائسة لاغتيال الوعي
دكتور الوليد آدم مادبو
لم أُفاجأ كثيرًا بإلغاء الفعالية التي كان من المقرر عقدها في بروكسل في آخر لحظة؛ فـ ”الدولة المركزية”، ومنابرها الإعلامية البائسة، اعتادت أن تتهرّب من مواجهة الحقيقة، وأن تستعيض عن النقاش الحر بالمسرحيات الدبلوماسية ومحاولات الابتزاز السياسي البائسة.
وما انطلى على بعض المؤسسات الأوروبية من خرافة “الثنائية المخلة” — أي تصوير الصراع على أنه صراع بين “جيش وطني” و”مليشيا” — هو بالضبط ما يريده الفلول: حجب حقيقة أن الجيش قد اختُطف وأصبح رهينة لخدمة مصالح الأخوان المسلمين، وأن الشعب إنما خرج طلبًا للحرية والسلام والعدالة.
لكن المضحك المبكي، هو أن يخرج إعلام مأجور، ليصفني بـ”عرّاب الجنجويد”! أي سخرية أشد من هذه؟ أنا الذي وقفت، منذ عام 2003، في قلب حملة المناهضة للإنقاذ، وجبت العواصم واعتليت منابر الجامعات الكبرى في أوروبا وأمريكا والخليج، شاهراً صوتي في وجه القتلة الحقيقيين (الكيزان المفسدين)، والذين اتخذوا من القبائل العربية ساعد عضلي لتنفيذ الإبادة الجماعية، أُتهم اليوم بأنني عرّابٌ لضحايا الحقبة الإنقاذية المقيتة! لو لم تكن التهمة بهذا القدر من الركاكة، لكان لها موضع للنقاش، لكنها لا تعدو كونها محاولة يائسة لاغتيال الوعي.
يلزم تذكير الفلنقايات بالآتي: “ربُّ الفور” الذي تتمسحون بظلّه هو ذاته الذي أحرق القرى، ويتّم الأطفال، ورمّل النساء، وقتل الشيوخ، بل وأمر بإبادة قرية كاملة لأن أهلها تجرأوا يومًا على الاعتراض على اغتصابه لطفلتين قاصرتين! ذاك سجل من لا يستحق إلا المحاكم الميدانية لا المنابر الدولية. من هذه الزاوية يجب أن تُعامِل المؤسسات الأوروبية أمثاله كـ pedophiles لا كـ “قادة سياسيين”.
لقد قلت في كتابي “دارفور… المستوطنة الأخيرة” (2012) إن الصراع في جوهره ليس بين عرب وزرقة، ولا بين قبائل وجهات، بل بين منظومة استعلاء مريضة ومجتمع يتوق للتحرر من ربقة العبودية. وقلت في المدينة الآثمة إن الخرطوم لم تكن عاصمة وطن بقدر ما كانت مختبرًا لإعادة إنتاج الإقصاء والفساد. واليوم، أجدني مضطرًا لتكرار ما هو بديهي: لا أدعي صوابًا لفكري أو اعتمادًا لمنهجي، لكنني أرفض أن يُكمم الوعي، أو أن يُذبح الوطن على عتبة شعارات زائفة.
دارفور ستتحرر، والفاشر ستنهض من جديد، لا بوصفها مجرد مدينة، بل رمزًا للاستقلال والكرامة. لن يُرَفَّع صاحب امتياز إثني بعد اليوم لقيادة حامية عسكرية أو رئاسة لجنة أمنية في غرب السودان، فقد كان ديدن هؤلاء الفتنة وبث الفرقة والسعي بالإفساد بين مكونات الإقليم، كي تدوم لهم السلطة، فهم يعلمون أنهم أقلية لا تتجاوز ال 5 في المئة. لقد ولّى زمن الاستعلاء العرقي، والرهان على الدولة المركزية لا محالة خاسر.
ولعلّ سفير السودان في بروكسل، عبد الباقي حمدان كبير، نوباوي الأصل، يعلم — أو لعلّه يجهل — أن أمثاله من “الفلنقايات” هم الذين يُستَخدمون لتغطية جرائم أسيادهم، بينما نحن — مادبو وتقد وآخرون — نقتحم المعترك الفكري والسياسي والأدبي لنحررهم هم وأمثالهم من ذلّ الانبطاح ومن غياهب الهزيمة النفسية والمعنوية. ما هو مصير السفير كبير أو مصير الفريق أحمد إبراهيم مفضل، مدير جهاز الأمن، الذي أصدر إليه التعليمات بضرورة تعطيل الفعالية، عندما يَنْفَق الطاغية أو يهرب إلى إحدى الدول المجاورة؟
لقد قال إدوارد سعيد: “المثقف الحقيقي هو من يقول كلمة الحق في وجه السلطة، لا من يزين للسلطة وجهها القبيح”. وإنني إذ أضع نفسي في هذا المقام، لا أزعم العصمة، بل أرى أن الحياد في لحظة الطغيان خيانة، وأن مجرد الصمت يُعد تواطئًا. إن ما يُرعب الفلول ليس صوتي الفردي، بل صورة جيل كامل يعبر عن وعي جديد، يتجاوز الانقسامات المصطنعة، ويرفض التمايز القبلي والإثني، ويمضي نحو مشروع وطني جامع قوامه المواطنة والعدالة المتساوية.
فها هما الوليد مادبو (الرزيقي) وأحمد تقد (الزغاوي) في منصة واحدة يجدان الحيلة في الكلمة وليس البندقية: الكلمة التي تكشف زيف الفلول، وتفضح فساد خطابهم، وتذكّر الناس أن السودان ليس رهينة إعلام مأجور، بل وطنٌ يستحق حياة أرقى وعدالة أوسع.
تلفزيون السودان — هذا الجهاز المفلس أخلاقيًا، البائس فكريًا — يمكنه أن يوزع الألقاب كما يشاء، وأن يشيطن الأصوات التي تؤرق نوم أسياده. لكنني، ومعي كثيرون، لن نتراجع عن قول ما نؤمن به: أن دولة المواطنة آتية، وأن زمن الفاشية الدينية أو الوطنية قد ولّى، وأن محاولات الاغتيال الرمزي أو المعنوي للأشخاص لن تنال من مقصدنا أو تثني عزمتنا.
ختامًا، من يحتفي بإسكات الفكر فقد احتفى بإذلال التاريخ، ومن يطأطئ رأسه لجهة الخضوع أمام دعاوى الحقد فقد أعلن خلع ضميره العام ونسي عاقبة الإجرام ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النساء: 123].