
الرئيسية ثقافة سرد أفكار في الليل (الجلوس تحت الحائط المُبلل بالمطر القديم، او كيف أننا ننزحُ داخل النزوح، وما قالتهُ “قمر” عن مبيد الحشرات)
أفكار في الليل (الجلوس تحت الحائط المُبلل بالمطر القديم، او كيف أننا ننزحُ داخل النزوح، وما قالتهُ “قمر” عن مبيد الحشرات)
يسرا حمزة
يتحولُ عقلي الى حقلٍ صخري ويرفضُ الماء والعُشب والحديث اللين، ويقولُ لي سأنكفئُ على ذاتي فلا تزعجوني بالأفكار، أحتاجُ لأن أكونَ بلا جذور أحياناً، لو أنكِ تمنحينني الإذن لأمتلك أجنحة.
عندما رأيتكَ ككائن يسكنُ أقصى الغابة وتتحركُ خلف أخر خطٍ للأشجار علمتُ يقيناً بأنكَ المقصد والطريقُ إليك هينٌ وصعب، وكل خطوة نحوك نجاةٌ وحياة وحديقةُ ورد.
فاكهةٌ حامضة ووردية بنوفمبر البارد، في العربية قال الشابُ المصاب بمرضٍ ذهني “أريدُ القليلُ من الموز، وليس معي نقود الان، يجب ان تذهب معي للمنزل لأعطيك المال”، قال له الرجل “حسناً”، هذا ما شهدتهُ في وقتٍ مُبكر من اليوم وحركَ قلبي، رأيت هذا الشاب قبل أسابيع في الدُكان يحملُ دفتراً جديداً وكان يقول سأكتب أسمي هُنا وفي الأسفل مكان سكني سأكتبُ “ربك كوستي .. ربك كوستي .. ربك كوستي .. ربك كوستي” كررها كثيراً وكأنه يُؤكدُ لنفسه عنوان بيته ومدينته وهو بعيدٌ عنها.
أثرثرُ كعادتي، فهذه الحرب، هذا النزوح جعلاني شخصاً مختلف لا أعرفه، أو ربما كنتُ هكذا دائماً بداخلي دون أن أُدرك، حتى دمي تغير، شعرتُ بذلك لمَا أصبتُ بالملاريا والحمى قبل أشهر، كنتُ أهذي في الليل ورغم إستغراقي في النوم كنتُ أشعر بكلِ شئ من حولي.
قال مصباحُ النيون وماذا عني؟ من أجمل أنا أم نجمةُ السماء؟ لا تنسيني، لماذا لا تحركني أعمدةُ الكهرباء بهذه المدينة؟ كُل شئ هُنا ثقيلٌ على الروحِ وغريب، عندما كنتُ أقفُ خارج البيت أنتظرُ الفتى البائع ليعطيني إناء الحليب نظرتُ لشجرة الجَد، شعرتُ بها كشبحٍ هائل وليس لها وجود، ورقها أخضر لكنها ليست حية.
رائحةُ الحليب بيدي، عند الظهيرة أصابَ “قمر” القلق وركضت نحو أمها المُقعدَة وأخبرتها هنالك سُم ينتشرُ في الهواء، ألبسي قناع الوجه وأغلقت النوافذ والأبواب الحديدية بجنون وهتسيريا، وقالت “هذا ليس مبيد حشرات أنه سمٌ قاتل” ولم أجبها بشئ، وقلتُ لنفسي هل هنالك مبيدٌ أكثر قسوة من الحرب التي رأيناها في الخرطوم؟.