
“جودو” الذي يأتي: أديس-جدة، اختلاف الطقس ووحدة سيرورة الخطاب
صلاح الزين
للجغرافية أحكامها كما للتاريخ مُكرُهُ وهو خير الماكرين.
بين جدة وأديس هيولٌ مائيٌّ يسمى البحر الأحمر بملوحة تغري قرابة المصالح بكل مِن ما يليه من جهات وأنحاء، إقليميًا ودوليًا.
حرب في الخرطوم مرآة حروبات أخرى ينقصها التحديق في المرآة ومسح ما غشي سطحها من ضباب وغبار أخفى ذريتها وتنكَّرَ لنسلِها لأنها “هناك”، هناك بعيدة من “هنا”.
من هم فوق هضاب أديس -الحرية والتغيير (قحت)- ومن يناظرهم عبر البحر المالح -عساكر اللجنة الأمنية (جنرالات الحرب) في سهول جدة- يكملان بعضهما البعض ويرتديان ذاتَ معطفِ الخطاب بشهادة ميلاد منذ العام 2019: سقالات وحوامل لخطاب سياسي طبقي وثقافي سابق لانتفاضة الديسمبريين ومواثيقهم تمت إعادة إنتاجه بأواليات عدة: وثيقة معطوبة، اتفاقية جوبا للسلام، انقلاب أكتوبر 2021، وثيقة محامين، برنامج إطاري وحرب الخامس عشر من أبريل.
كَتبتُ في كتابات عديدة سابقة (صحيفة مداميك) أن حرب أبريل حَتْمُ ضرورة استلَّت نفسها من قيلولات حروبات سابقة لم تكمل دورة نومها.
حربٌ مؤجلةٌ أرهقَها الانتظار حتى كانت فترات السلام في تاريخ السودان حربًا أخرى مؤجلة تتسوَّر حيطان قيلولات السلام والبلاد.
توزع المشهد والخطاب السياسي منذ العام 2019 بين فضاءين: خطاب لجان المقاومة ومواثيقهم مقابل خطاب اللجنة الأمنية المسيطرة (العسكريين) ومردوفاتهم مِن حرية وتغيير (قحت) ومَن لحق بهم أو تم إلحاقه من تكوينات حزبية أو مجموعات مدنية تزوق جنبات هذا الخطاب.
اندلعت الحرب لضرورات تاريخية عدة، من أمْيَزها انسداد خطاب السلطة بتناقضات ذات صفة بنيوية لم ولن تتصالح مع شعارات الديسمبريين في الحرية والسلام والعدالة ولا حتى أطروحة التغيير الذي ينهض على قراءة ناقدة لكل ما سبق إرساؤه من بنيات الخطاب البعد كولونيالي ولا ما طرحته لجان المقاومة من مواثيق وأدب سياسي في الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب.
والخطاب، أيُّ خطاب، يملك من الحيلة والدربة ما يمكِّنُهُ من أن يصوِّر نفسه بتضاريس ماءِ ذاتِ البركة قبل وبعد مرورِ ريحٍ أو إلقاء حجر.
إنها حيلة الخطاب ومهاراته وهو يتوسد التاريخ والسيرورة ليستر ما يتبدَّى من عورات لازِمة لانتقالاته وعبوراتها.
هكذا تتعدد أفواه ذاك الخطاب وإنْ كان هو، بنيويًا، ذات الخطاب، خطابٌ واحدٌ تتناهشه رؤيتان لسلخ الخطاب من تماثله والدفع به لسوح اختلاف به يمتن ويعضد ذات التماثل: قحت، جنجويد، عسكر، مع تناثر الفلول في عرَصاتهم كما غبار تُوزِّعهُ ريحٌ منذورة لعدالة التوزيع !!
إنه دمُ ونسغُ القرابة الطبقية والمصالح السياسية والثقافية التي توزع عطرها وشالها لأُنوفٍ لا تشم غير ذات العطر وأكتافٌ لا تتلفح بغير ذات الشال.
هكذا توزع خطاب الانهمام بإيقاف الحرب بين عدة جغرافيات وسماوات: القاهرة، يوغندا، كينيا، جنوب السودان، أديس، جدة. إنها قافلة الخطاب في سير القافلة في دروب عدة ولكنها على هدى نجمٍ واحد وحادٍ بصوتٍ وحِداء يقودُ جِمالَ القافلة في تؤدة وانسجام كمايسترو يحذق تساوق الأوتار بعصاة تشير ولا تخطئ. لا مكان لنشاز الأوتار، وإنْ حدث البتر أوجب.
يرتحل ذاك الخطاب من غير أن يداري عوراته التي تصوِّر اختلافات منطوقه وما يشي به كتصورات حول مَن الأقرب إلى تحقيق شعارات الديسمبريين وطعم قهوة حلمهم وأشواقهم.
بذلك تصبح حواراتهم وتعدد جغرافياتها أشبه بمغالطات كهنة يُفرِّقهم اختلاف الزي ومعمار المعبد ويوحِّدهم نفس ماء العبادة والطهر.
يرتحلون في الأماكن والأجواء ويتوزعون قماشة خطابهم وتصوراته ويتعهدون رعاية ذات الخطاب بذات الحليب وإنْ اختلفت قارورة الإرضاع: إنها “جانيوسيةٌ” ومهارةٌ فيهِ بها يكون الخطاب ويفتضح في ذات الآن.
ستكمل أديس ما ينقص في سهول جدة وتعضد جدة ما يعتَوِر أديس وهضابها.
إنها ذات المشيمة الخطابية المسنودة أركانها بوحدة الخطاب وسقالاته الطبقية والسياسية والثقافية التي تحاول مدينتا أديس وجدة الإيهام باختلاف المسار ودَرب الماء.
وتبقى شعارات الديسمبريين ومواثيقهم مرآة صقيلة تفضح عورات هذا الخطاب وما يصوِّره من تعدد واختلاف في بنيته وإحالاته.
التعليقات مغلقة.
بدأ المقال بجملة (بين جدة وأديس هيولٌ مائيٌّ يسمى البحر الأحمر)، وهذه لعمري غلطة جغرافية مبية، تجعل من بقية المقال مادة غير صالحة للقراءة.
وتبقى شعارات الديسمبريين ومواثيقهم مرآة صقيلة تفضح عورات هذا الخطاب وما يصوِّره من تعدد واختلاف في بنيته وإحالاته.