‫الرئيسية‬ مقالات الإخوان المسلمون.. خمس وقفات على أطلال الإسلام السياسي (1)
مقالات - 19 سبتمبر 2025, 6:05

الإخوان المسلمون.. خمس وقفات على أطلال الإسلام السياسي (1)

الجزء الأول: الجذور والتأسيس.. من الخمسينات حتى السبعينات

إبراهيم برسي

هذا المقال هو الجزء الأول من سلسلة من خمسة أجزاء حول الإسلام السياسي والإخوان المسلمين، ستُنشر تباعًا في هذه الصحيفة أسبوعيًا، وهي كتجليات تمهيدية لكتاب يحمل العنوان نفسه، فرغت من تأليفه، وهو الآن في مرحلة التصحيح الأخيرة، على أعتاب النشر.

منذ أن أطلق حسن البنّا مشروعه في مدينة الإسماعيلية سنة ١٩٢٨، كان واضحًا أن الحركة الوليدة ليست مجرد جمعية دعوية كما بدت في البداية، بل مشروع أيديولوجي يسعى لتفكيك العالم وإعادة تركيبه تحت راية شعارات تبدو بريئة في ظاهرها، خطيرة في باطنها. لم يكن البنّا رجل دين تقليديًا؛ كان سياسيًا مُقنّعًا بثوب الوعظ، عارفًا أن الدين حين يُسخَّر كأداة للسلطة يصبح أقوى من أي سلاح. ومع نهاية الأربعينات، اغتيل البنّا في القاهرة سنة ١٩٤٩، في حادث ظلّ حتى اليوم محاطًا بالالتباسات، لكنه كشف منذ وقت مبكر أن الجماعة تحيا بالعنف وتموت بالعنف.

لم يكن “النظام الخاص” عند الإخوان مجرد جهاز أمني موازٍ، بل كان البنية الحقيقية التي تدير الحركة من وراء الواجهة الدعوية: خلايا صغيرة، أقسام للتدريب والتمويل والتسليح، وأذرع خيرية تُعيد إنتاج الشرعية الاجتماعية عبر الإغاثة والتعليم. تلك الازدواجية بين الدعوة والتنظيم السرّي منحت الجماعة قدرة على المناورة والتخفي، وسمحت لها بأن تبدو كجماعة وعظٍ وهي تدير في الخفاء ماكينة تعبئة صارمة.

في الخمسينات، دخلت المنطقة العربية مرحلة التحولات الكبرى: انهيار الاستعمار المباشر، صعود القومية العربية بقيادة جمال عبد الناصر، وانطلاق حركات التحرر في أفريقيا وآسيا.
في هذا السياق، ظهر الإخوان كقوة معارضة شرسة لكل مشروع وطني علماني أو اشتراكي. وحين حاول ناصر أن يستوعبهم في ثورته سنة ١٩٥٢، أدرك سريعًا أنهم ليسوا حلفاء يمكن الوثوق بهم. فمحاولة اغتياله في ميدان المنشية بالإسكندرية سنة ١٩٥٤ لم تكن حادثًا عابرًا؛ كانت إعلانًا بأن الجماعة ترى العنف وسيلة شرعية لتصفية الخصوم.
من تلك اللحظة، انفتحت أبواب السجون والمشانق: قادة الإخوان وكتّابهم حوكموا، وزُجّ ببعضهم في السجون، وبعضهم أُعدم (مثل سيد قطب سنة ١٩٦٦)، وآخرون هاجروا إلى الخليج، حيث وجدوا بيئة مواتية لإعادة بناء خطابهم تحت مظلة المال النفطي والرعاية الغربية التي رأت فيهم سدًّا ضد المدّ القومي واليساري.

ومن ثم فإن الصدام مع دولة يوليو لم يكن حادثًا معزولًا، بل لحظة تكشف جدلية عميقة: الشمولية القومية تُنجب شمولية دينية مضادة، وكل منهما يستثمر الخوف العام لإعادة هندسة المجتمع.
السجون صارت معسكرات لتصلّب الهوية، والهجرة إلى الخليج وأوروبا تحوّلت إلى شبكة بعيدة عن الرقابة تُعيد تدوير الكوادر والخطاب والمال.

سيد قطب، الرجل الذي تحوّل في السجن من أديب إلى أيقونة تكفيرية، صاغ في كتاباته “معالم في الطريق” (١٩٦٤) مفردات جديدة للقتل باسم الدين: الجاهلية، الحاكمية، الفئة الناجية، وضرورة “المفاصلة” مع المجتمع. لم يكن قطب مجرد مُنظّر؛ بل كان صانعًا لوعي مأزوم، ولغة تشرعن الاغتيال باعتباره تطهيرًا. ومن هنا يمكن فهم كيف تحوّل الخطاب الإخواني من دعوة إصلاحية إلى مشروع راديكالي مسلّح.
إن التحليل النفسي لشخصية قطب يكشف أن الرجل حمل عقدة مركزية: رفض العالم كما هو، ورغبة في تدميره بالكامل ليُعاد خلقه وفق تصور أحادي.
إنها شخصية مهووسة بالمطلق، عاجزة عن التفاوض مع الواقع، ترى في الاختلاف تهديدًا وفي التنوع خطيئة.

لغة قطب لا تشتغل على البرهان السياسي بقدر ما تشتغل على الحسم الأخلاقي: تأثيم العالم وامتياز “الفئة الطاهرة”. لذلك اجتذبت نصوصه طلابًا متعلمين رأوا في الثنائيات الصارمة خلاصًا من تعقيد العصر. ومع غياب الوسطاء الدينيين التقليديين، صارت القراءة الفردية للكتب بمثابة “فتوى شخصية” تقود إلى فعل جمعي متشدد.

في هذه المرحلة، لم يقتصر العنف على مصر. ففي سوريا مثلًا، خاض الإخوان منذ الستينات مواجهة دامية مع نظام البعث، وشهدت مدينة حماة اضطرابات متكررة، انتهت في السبعينات بصدامات أكثر عنفًا. وفي الأردن، نجحوا في التغلغل عبر التعليم والنقابات، فيما اتجهت فروعهم في السودان نحو بناء تحالفات سرية مع الجيش. هناك تحديدًا، ستولد لاحقًا الجبهة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي، التي ستصبح نسخة أكثر وقاحة من المشروع الأم، حيث سيُدار الدين كغطاء لانقلاب عسكري وحكم دموي.

وما بين الجامعات والمساجد والنقابات، تشكّلت “بيداغوجيا الكادر”: محاضرات داخلية، معسكرات دعوية، حلقات قراءة، وميزانيات للطلبة الفقراء.
غاية هذه التربية ليست المعرفة بقدر ما هي صناعة الانضباط؛ أي تحويل الفرد إلى ترس مطيع يرى في التنظيم معنى وجوده وامتداده في العالم.

بين الخمسينات والسبعينات، أخذ التنظيم العالمي للإخوان يتشكل بصورة أوضح: مؤتمرات تُعقد في أوروبا (ميونخ، جنيف، لندن)، علاقات مع الجماعة الإسلامية في باكستان، واتصالات غير معلنة مع أجهزة غربية رأت في الإسلاميين أداة لوقف المد الشيوعي. ولعلّ المفارقة أن حركة رفعت شعار “الإسلام هو الحل” لم تتردّد في التحالف مع من سمّتهم “أعداء الأمة” إذا خدم ذلك مصالحها. هذا ما يعرف في علم النفس الاجتماعي “ازدواج المعايير الإدراكي” أو Cognitive Dissonance: أن يعيش الفرد أو الجماعة تناقضًا صارخًا بين ما يؤمن به وما يفعله، ثم يبرر ذلك بخطاب لاهوتي يُعيد إنتاج الطاعة العمياء.

في السودان، بدأت نواة الإخوان منذ الخمسينات مع الطلاب العائدين من مصر، لكن البيئة السودانية – بطبيعتها الصوفية والمتعددة – لم تكن أرضًا خصبة للفكر الإقصائي. لذلك لجأ الإخوان إلى استراتيجيات أكثر مكيافيلية: اختراق الجامعات، السيطرة على اتحادات الطلاب، استقطاب العسكريين، وبناء جهاز سرّي مسلّح. وقد برزت أسماء مثل الرشيد الطاهر، حسن الترابي. كانوا يتعلمون من تجربة مصر، ويحاولون نقل “النموذج القطبي” إلى الخرطوم، مع تكييفه للسياق المحلي. ومع نهاية السبعينات، سيصبح لهم اليد العليا، استعدادًا لانقلاب ١٩٨٩.

أما في السودان، فقد تعلّم الفرع المحلي أن يعيد صياغة قاموس الهوية بما يخدم التمكين: توظيف العروبة حينًا، والأسلمة حينًا آخر، وربطهما بتصوّر طبقي يعاقب الفقراء باسم “الأخلاق” ويكافئ الولاء بشبكات ريع وفرص. فتحوّلت المدارس والاتحادات الطلابية إلى معامل مفتوحة لإنتاج كوادر بيروقراطية وأمنية تتقدم لاحقًا إلى واجهة الدولة.

الاغتيالات خلال هذه المرحلة كانت جزءًا من البنية لا استثناءً. من النقراشي سنة ١٩٤٨، إلى محاولة اغتيال ناصر سنة ١٩٥٤، وصولًا إلى اغتيال المفكرين والخصوم في الخفاء، يظهر أن الجماعة عاشت على منطق الدم.
يقول المفكر السوري الطيب تيزيني إن “الإسلام السياسي لا يملك مشروعًا معرفيًا، بل يملك مشروعًا سلطويًا؛ وحين يعجز عن الإقناع يلجأ إلى الرصاص”. هذا القول يلخص المأساة: العنف ليس طارئًا عند الإخوان، بل جوهرٌ مكوّن لهويتهم السياسية.

من ثم يغدو العنف ليس مجرد أداة، بل لغة حكم: حين يُختزل الخصم في علامة وجودية “عدو الدين”، يصبح الجسد هدفًا مشروعًا. هكذا يتبدّل الخلاف الفكري إلى قضية أمنية، ويغدو المجال العام مسرحًا لاستعراض الطاعة والردع؛ حيث تُستخدم الأمثلة الدموية كدروس تربوية لتأديب المجتمع.

ويمكن النظر إلى الجماعة كتنظيم يقوم على ما يُعرف بـ “العقل الجمعي المغلق”: حيث يُعاد تشكيل الأفراد عبر التلقين، يُلغى التفكير النقدي، وتُزرع فيهم مشاعر الذنب والواجب المقدّس.
فالشخصية المتطرفة – كما تشير دراسات علم النفس السياسي – تميل إلى التفكير الثنائي: خير/شر، إيمان/كفر، نحن/هم. وهذا ما يجعلها قابلة دائمًا للعنف؛ لأنها ترى في الآخر تهديدًا وجوديًا لا يُحلّ إلا بالإزالة.

على المستوى النفسي، تتأسس الطاعة عبر آليتين متكاملتين: الذنب والتكليف. يُحمَّل العضو ذنب تقصيره تجاه “المشروع”، ثم يُمنح تكليفًا يطهّره بالعمل.
تتكرّر الطقوس: جلسة اعتراف، تجديد بيعة، مراجعة دفتر الواجبات الدعوية، فيجد الفرد نفسه داخل حلقة مغلقة تُعيد تعريف هويته كلما حاول الخروج.

في هذه الحقبة، لم تكن الجماعة معزولة؛ فقد بدأت خيوط علاقتها بجماعات أخرى بالظهور. في باكستان، تحالفت مع الجماعة الإسلامية بقيادة المودودي، الذي بدوره نظّر لمفهوم “الحاكمية” بشكل موازٍ لسيد قطب. في أفغانستان، ظهرت لاحقًا البذور الأولى للجهاد العالمي الذي ستحتضنه طالبان ثم القاعدة. كل ذلك يوضح أن الإخوان لم يكونوا حركة محلية، بل جزءًا من شبكة عابرة للحدود، تشترك في الخطاب والأهداف وإن اختلفت في الوسائل.

وهنا تطرح الأسئلة: هل كان يمكن للإخوان أن يسلكوا طريقًا آخر؟ أن يكونوا حزبًا سياسيًا محافظًا دون عنف؟ بعض المفكرين المسلمين المستنيرين، مثل فرج فودة في مصر، أجابوا بوضوح: لا. لأن بنية الجماعة قائمة على عقيدة شمولية، لا تقبل الفصل بين الدين والسياسة، ولا ترى الشرعية إلا في التمكين. لذلك فإن العنف ليس انحرافًا عن مسارها، بل نتيجة منطقية لأساسها الفكري.

إن النظر إلى الخمسينات حتى السبعينات يكشف لنا مرحلة التأسيس الحقيقية: بناء خطاب أيديولوجي قائم على التكفير، ممارسة العنف ضد الخصوم، إقامة شبكات تنظيمية عابرة للحدود، واستعداد دائم للتحالف مع القوى الدولية ضد الأعداء المحليين.
إنها مرحلة تكثيف كل عناصر ما سيأتي لاحقًا: من انقلاب البشير في السودان، إلى صعود حماس في فلسطين، إلى تمدد القاعدة وداعش في العالم. وكأن البذرة وُضعت هناك، ثم ظلّت تنبت أشكالًا مختلفة من نفس الشجرة السامّة.

“في الأسبوع المقبل، نواصل في الجزء الثاني: من الاغتيال إلى الانقلاب (١٩٧٠–١٩٩٠)، لنرى كيف تحوّل المشروع من تنظيم معارض إلى لاعب إقليمي يسعى إلى السلطة عبر الدم والانقلابات”.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 0 / 5. Total : 0

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *