‫الرئيسية‬ مفكرة الحرب كنتُ في السُّودان زهرة
مفكرة الحرب - 19 سبتمبر 2025, 6:38

كنتُ في السُّودان زهرة

شعر: بابكر الوسيلة

(1)
“في رَونق الصُّبح البديع”..
والشَّمسُ أُغنيةٌ تُطلُّ على مرابيع الجميع..
كنتُ
في
السُّودان
زهرة..
تمنَّيتُ – كما تشتهي عادتي دائماً- أن أَفُوح..
وأن أتفتَّحَ بين يَدَي عاشقَينِ كانا هنا (رغم بعضِ الجُرُوح)
يَهمسانِ ببعض الأغاني بصوتِ الأمل..
قلتُ أخصُّهما بالنِّداء
أُسِرُّهما بالنَّدى
وأُهديهما بَتْلْةً من رحيق القُبَل.

قلتُ أُفاتحُ صورةَ العشَّاقِ في الأشواقٍ عند الملتقى..
وصورةَ النِّيلِ الَّذي يتقدَّم نحو الوطن..
تفتَّحتُ مثلَ كلِّ الزُّهُور
(مثل أختي الزَّنبقة..)
وصوتُ حمامةٍ بيضاءَ حطَّت فوق أطيافي على غُصن الزَّمن..
قلتُ أُغازلُ الدُّنيا على نسجِ الحديقة..
وطناً بديعيَّ السَّليقة.

والحقيقة..
كان الماءُ قُربَ النِّيلِ يَنهَدُ بين أنَّاتِ الجُرُوف..
ويُمدِدُ كفَّهُ للعاشقَينِ كمثلِ شحَّاذٍ لَهُوف..
كان النِّيلُ كالصَّحراء قاحل..
كانتِ الأمواجُ جامدةً
وتيَّار الأسى جامح..
في الحال غطَّيتُ الملامح..
وسربُ قذيفةٍ مجنونةٍ غطَّى بساتينَ السَّواحل.

هكذا قُطفت
قديماً
زهرةُ السُّودانِ من هذا الوطن..
صارتِ الشَّمسُ عذراءَ،
والأرضُ خضراءَ الدِّمَن.

(2)
ما ضرورةُ هذا الصَّباح..
إنْ لم تتلمَّسِ الشَّمسُ أرضَ بلادي
بالغناء الرَّباح!
ما لُزُومُ المساء..
إذا لم أشُمَّ على الكأس رائحةَ الأصدقاء!

(3)
بلادي لها
ما ينومُ فؤادي عليها
ما تقومُ إليها الحياةُ بها:
غبشُ الفجرِ في النِّيل،
وشهوةُ قهوةِ أمِّي مع الحُبِّ بالزَّنجبيل.

(4)
ولها الأرضُ
بساطاً من دمِ الشُّهداء..
فهل يعرِفُ القاتلُ حُلمَ القتيل؟!
آهٍ من القمر الشَّبابيِّ المسجَّى على صفحة المستحيل!

(5)
خرجَ الوقتُ من وقته ثمَّ ضاع..
آهِ لو أعزفُ الآن مكاني
على وطنٍ مُستطاع!

(6)
أنا لا أراكِ الآنَ حتَّى..
بيد أنَّ حفيفَ يديك منِّي،
بالقُربِ والبُعدِ.
ما حكَّ مثلُ ظفرِ حبيبتي جلدي

(7)
وتنفَّس المنفى في أُخرَياتِ اللَّيلِ
منابتَ الأشعار..
كلُّ قصيدةٍ فرَّت من الإبداع
والذِّكرى مجرَّدةٌ
كأنْ لم تَغنَ الحياةُ بلمسة الإيقاع..
أو تنمو على حُضن التُّرابِ
(وفي حُضُور الحُبِّ)،
أغنيةُ الصَّلاةِ على الحبيب..
أو يزهو حنانٌ في بنانِ الصَّبِّ،
آهٍ أيُّها الغُصنُ الرَّطيب..

وأنا أنا
ولو غامرتُ بين رَصَاصتَينِ،
ولو غاضت بحارُ الشِّعرِ
في تفعيلةِ الإنسان..
لكنِّي أنا
وأنا هنا
ولو تحجَّر صوتُ حُنجرتي..
ولكنَّ اللِّسانَ سليلُ لهجات التُّراب
(السِّرُّ منزلةُ الكتاب)
حيث هنا المكان..
وهنا الزَّمانُ يَسيرُ مُتَّسِخاً بتاريخي
لكنَّه يُهدي عبيرَ السَّودَنة.

(8)
ظهر الغُثَا في النِّيلِ
واستشرى فسادُ السَّيلِ
وانتشر العفَن..
فلا موجٌ يقولُ ليَ الحبيبةُ للحبيبِ
أمِ الحبيبةُ للوطن..!

(9)
الذِّكرياتُ خفيفةٌ ومخيفةٌ..
والشِّعرُ في الدُّنيا حفيفُ الأزمنة..
قد يَضلُّ الشَّاعرُ المحظوظُ باللَّحظاتِ،
لكنْ.. لن تَضلَّ الأمكنة.

(10)

لا تموتوا أيُّها الأصحاب..!
في الذِّكرى يدٌ تتلمَّسُ المنفى في مَقبضِ الأبواب..
والحُضُورُ إلى غدٍ غالٍ
وأَدْعى للرَّحيل إلى الغياب.

لا تموتوا أيُّها الأصحاب..!
أنا لا ألومُ الحُزْنَ لو فاض الحنينُ بكم..
لا، لن ألومَ النِّيلَ لو ما أفْضْت ضفافُ النِّيلِ
للسَّهر الجميلِ على النَّجيل.
لو ما تداعت كأسُ أُغنيةٍ على وَتَرِ الشَّراب.

لا تموتوا أيُّها الأصحاب..!
فيضوا حيثما ما أغنيتم الدُّنيا بموج الأمَّهات..!
أغنياتٌ..
أغنياتْ..
وأفيضوا من طوابي النِّيلِ حجَّاً عامرَ السُّودانِ بالسَّلوى..
أفيضوا
أينما كنتم فُرادى أو جماعاتٍ عُراة..
(حجُّ النِّيل فرض الذِّكريات)
أغنياتٌ..
أغنياتٌ..
أغنياتْ..
كونوا شجراً يلتفُّ على الصَّدر الملتفِّ،
كما يلتفُّ العاشقُ بالجذرِ الأوَّلِ في بستان الوُجدان،
كما يتوجَّعُ رِحْمُ السُّودان..

كونوا في الأرض كعادتكم بُسطاء..
وسودانيِّين سَواسيَةً في النِّيلِ وفي الصَّحراء.

لا تموتوا هكذا
يا أيُّها الأصحاب!

(11)
أموتُ بين جُثَّتينِ فوق جُثَّةٍ
جَثَتْ على الجُثَث..
كان في غيابة الحُضُورِ مسرحيَّةٌ،
وفي الحضيض وردةٌ
تُضاحِكُ العَبَث.

* الصورة البارزة لوحة للفنان التشكيلي السوري بسيم الريس

 

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 0 / 5. Total : 0

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *