‫الرئيسية‬ مقالات الحرب والحزب الشيوعي السوداني: بين صلابة الموقف وعمى النتائج
مقالات - 19 سبتمبر 2025, 5:52

الحرب والحزب الشيوعي السوداني: بين صلابة الموقف وعمى النتائج

رد على مقال عمر علي محمد: (الحزب الشيوعي السوداني، الليبرالية المدنية، والحرب بوصفها نتاجًا بنيوياً)

بقلم: عاطف عبدالله
تقديم
اليوم فقط، وأنا أطالع في صحيفة “مداميك” وجدت مقال الأستاذ عمر علي محمد، الذي انتقد فيه مقالي «الحزب الشيوعي: عناد القيادة والحرب التي جبت ما قبلها»، ورأى أنّ طرحي “إعادة إنتاج لخطاب التسوية” وتغافل عن “الجذور البنيوية” للحرب. أقدّر الجهد الذي بذله في تفصيل خلفيات الأزمة السودانية، لكنّي أختلف معه في استنتاجاته؛ إذ يختزل الخلاف في ثنائية “مبدئية الحزب مقابل ليبرالية المدنيين”، ويتجاهل حقيقة أنّ التمسك المجرد بـ«النقاء الثوري» لا يعفي صاحبه من مساءلة النتائج العملية لمواقفه.
الماركسية ليست نصًا مقدساً بل منهج لفهم الواقع
المنهج الماركسي الذي نشأ من قلب صراعات اجتماعية حيّة علّمنا أنّ المواقف تُقاس بعلاقتها بحركة الجماهير وميزان القوى، لا بمدى نقائها النظري. لينين نفسه شدّد على “تحليل الملموس للواقع الملموس”، وحذّر من تحويل الشعارات إلى قوالب جامدة. من هذا المنظور، يصبح السؤال:
هل أدّى موقف قيادة الحزب الشيوعي، منذ خروجه من قوى الحرية والتغيير ودعوته لإسقاط الحكومة الانتقالية، إلى توسيع إمكانات الجماهير أم إلى تضييقها؟
الجواب، برأيي، أنّه سهّل – موضوعيًا – مهمة القوى المعادية للثورة، مهما كانت نوايا أصحابه.
عن “الصلابة” و”العناد”
يصف عمر علي ما سمّيته “عناداً” بأنّه “صلابة مبدئية”. لكن الماركسية تميّز بين الصلابة الجدلية التي تعي توازن القوى وتبحث عن تحالفات مرحلية، وبين الجمود الذي يرفض أي مساومة حتى لو كانت تكتيكًا مرحلياً لخدمة غاية أكبر.
إسقاط حكومة مدنية هشة، في ظرف كان ميزان القوى يميل للعسكر والفلول، لم يكن دفاعاً عن الثورة بل تفريطًا في مكسب انتزعه الشارع بدمائه.
إنّ “الموقف المبدئي” الذي لا يزن عواقب الفعل على الجماهير يصبح – بلا قصد – أداة في يد الخصم الطبقي.
حول “النيوليبرالية” كجوهر الصراع
يؤكد مقال عمر أنّ الحرب نتاج مباشر لسياسات “النيوليبرالية” و”التسوية مع اللجنة الأمنية”. مؤكداً على أنّ برنامج حمدوك–البدوي أخطأ حين عوّل على الخارج ولم يعطِ الأولوية للإنتاج والعدالة الاجتماعية. دون أن يضع في الاعتبار أن الاقتصاد كان في غرفة الإنعاش المركزة وفي حاجة ماسة للمجتمع الدولي لرفع الديون وضخ الرساميل التي تعيد الدماء لشرايينه الجافة، وكذلك تغافل عن علاقة القوى المسلحة (الجيش والدعم السريع) بطبقات طفيلية ما قبل 2019، حينما اختزل أسباب اندلاع الحرب في السياسات الاقتصادية يغفل ويُهمل أنّ الشرارة المباشرة كانت صراعاً على سلطة وثروة، لا مجرد تطبيق لوصفة صندوق النقد.
حتى لو افترضنا صحة تلك الفرضيات كان يجب على الحزب الشيوعي مواجهة تلك السياسات وليس تدمير التجربة الانتقالية من جذورها، بل الضغط لتعديلها أو حتى إسقاط رموزها عبر أدوات جماهيرية، لا عبر إضعاف الحكومة حتى تصبح فريسة للانقلابيين.
وحدة الأثر رغم اختلاف النوايا
أشار مقالي إلى “وحدة الأثر” بين خطاب الحزب وخط الفلول في الهجوم على الحكومة. لم أقل بتطابق الجوهر الطبقي، لكن حين يتقاطع فعلان – مهما اختلفت نيات أصحابهما – في إضعاف معسكر الثورة، يصبح لزاماً التنبيه.
الماركسية تدرّبنا على قراءة الواقع عبر “النتائج الموضوعية”، لا عبر “شهادات النية”. ولهذا، كان لزامًا مساءلة الحزب عن مسؤوليته في تفكك الحاضنة المدنية.
عن الأرقام والمزاج الداخلي
ينتقد عمر إشارتي إلى أنّ “80٪ من القواعد” رفضت خط القيادة أو جمدت نشاطها، ويعدّها تقديراً انطباعياً. صحيح أنّ الرقم تقريبي، استندت فيه إلى نقاشات عامة، لكن جوهر الفكرة – وجود فجوة بين القيادة وقطاع واسع من الأعضاء – تؤكده استقالات معلنة ونقاشات على المنصات. وحتى إن اختلفنا حول النسبة، فالمسألة الجوهرية هي اتساع الهوة بين خطاب الحزب وقلق قواعده.
الحرب بوصفها قطيعة
المقولة الأساسية في مقالي أنّ الحرب “جبت ما قبلها” لم تكن إنكاراً للجذور التاريخية للأزمة، بل توصيفاً لحقيقة سياسية: حين يتفجّر عنف شامل يهدّد بقاء الدولة والمجتمع، تصبح الأولوية القصوى إيقاف النزيف.
النقاشات حول الهبوط الناعم والنيوليبرالية مهمة، لكنّها لا تُقدَّم على مطلب وقف الحرب وبناء جبهة مدنية قادرة على سد الطريق أمام أمراء العنف.
ما العمل؟
الطريق ليس في شيطنة الحزب ولا في تبرئة المدنيين الآخرين، بل في:
• نقد صريح لمواقف قيادة الحزب التي ساهمت في عزلة اليسار.
• مراجعة سياسات قوى “التسوية” التي فتحت الباب للانقلاب.
• توحيد صف القوى المدنية – الثورية حول برنامج حد أدنى: وقف الحرب، حماية ما تبقى من الدولة، وإطلاق مسار ديمقراطي جديد.
خاتمة
الحرب امتحان قاسٍ لكل التيارات. من واجبنا أن ننتقد الجميع بصرامة، وأن نزن المواقف بميزان أثرها على الشعب لا بصفاء نواياها. الحزب الشيوعي، بتاريخه وتضحيات مناضليه، جدير بمراجعة صادقة تعيد إليه مكانته كرافعة للتحرر، لا كصوت منزوٍ يكتفي بإدانة الآخرين.
أما نحن، فواجبنا أن نواصل النقاش بروح جدلية، بلا شيطنة ولا تبرير، حتى نعيد للحركة الديمقراطية عقلها الجمعي وبوصلتها.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 2

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *