
نيرون
قصة : مصطفى مدثر
قرأت في الصحيفة إعلاناً عن وظيفة لم يُحدِد نوعها ولا مؤهلاتها فقلت لنفسي : المهم وظيفة ! وذهبت.
كان هناك صفٌ طويل فجلست أنتظر، وبينما أنا أهم بإشعال السيجارة الثامنة منذ قدومي أطل أحدهم وأشار إليّ بالدخول للمعاينة.
داخل حجرة المعاينة جلس شابان يتوسطهما شيخ بدت عليه مظاهر الثراء وأحاقت بكهولته مسحة روقة فبدا كأنه في الأربعين. وكان الأخران وسيمين وعلى سيمائهم دعة ويسر . كان أمام كل من الرجال علبة سجائر وولاعة. وبعد الإذن لي بالجلوس وسؤالي عن تلك الأشياء، الاسم، العمر وما إليهما، انتقل رئيس المعاينة إلى سؤال لم أتوقعه:
“هل تدخن؟” فقلت له وأنا أتململ أدباً: شكراً، لقد أطفأت واحدة لتوي. فصاح ثلاثتهم بتوافق نغمي: لتوِك؟
فأعدت على مسامعهم بصبر جم: نعم لتوي!
فسألني الشيخ بصوت يقترب من الهمس: كم سيجارة تدخن؟
فأرخيت إحدى كتفيّ ومططت شفتي السفلى ثم مددت يدي لآخرها وقلت: “يعني عندك مثلا، وأنا منتظر دوري في المعاينة دخنت ثماني سيجارات.”
فضحك الثلاثة بقرقعة متهكمة ثم صمتوا صمتاً ساخراً وقال الشيخ كأنما ليغيظني: ” آسفين، لن نعينك!” إزاء هذا القرار من رئيس المعاينة سحبت آخر سيجارة من صندوقي الأخير وقلت لهم وأنا أخف وأنا أقف: ما عايزين ما عايزين! ثم وأنا أخرج من بابهم التفتُ أسألهم بحيرة غاضبة: “دي معاينة شنو دي؟
فغشتهم روح معاينة بايخة دفعتني إلى الخارج، من المنكبين دفعاً.
عندما وصلت باب الخروج كان هناك خفير يقف أمامه فسألته: إنت يا عم دي مش شركة زيوت الطعام؟ فقال لي بالحيل يا ولدي ثم أردف باهتمام كأنه صديق عزيز لوالدي: لماذا تسأل؟ ماذا هناك؟
فقلت له وأنا أحك أسفل حنكي بعصبية بينما عيوني تتجول بعيداً عن وجهه في معاينات مخبولة للأشياء: “لا، في الحقيقة تقدمت لوظيفة عندهم وما عينوني لأنني أدخن.” فقال الرجل بهدوء: “طيب يا ابني ما التدخين ضار بالصحة!” فانتفضت وقلت له بغلظة ساخرة: خلاص يا وزير الصحة. وساعتها انقلب صديق والدي العزيز إلى خفير حقيقي ارتدى الكاكي واستجلب عكازاً غليظاً من بيداء الغضب، لوّح به في وجهي وهو يقول: وزير الصحة في عينك يا قليل الحيا!
فهرولت عنه مبتعدا
في البوكس الراجع إلى أم درمان جلس قبالتي شاب ذو وجه منمش وشفاه لزجة، وما إن هممت أن أجعل منه مادة للتأمل حتى سألني بفظاظة دارجة: إيه يا أبو الرجال؟ فقلت له بتحفظ؟ أهلا. فصمت قليلا. ثم قال لي: “يبدو أنك نسيت. لقد تقابلنا في المعاينة قبل ساعة.” قلت له: ” آه، تذكرت. وما كان مصيرك معهم؟” فقال بفخر لم يقدر على إخفائه، “لقد أخذوني.” ثم استطرد بفرح. يحكي لي. أنها شركة كبيرة. لتوريد الزيوت إلى أماكن عديدة من البلد. وأن لهما تصديق بتخزين مواد بترولية يحتاجونها لعرباتهم. وأنه سيكون المسؤول عن المخزن، ما يرد إليه وما يصدر عنه. ثم أردف كأنني لا أصدقه: “إن مرتبهم كبير جدا.” فأخرجت سيجارة كانت منسية داخل جيبي، وبلا شعور مدتها له. فقال لي بوقار: شكراً، لقد أطفأت واحدة لتوي. فسألته: “وماذا قلت لهم عن التدخين؟” فقال ببدهية مقيتة: طبعاً، أنكرت أنني أدخن. فقلت له: “ومن هداك لهذه الكذبة السهلة؟ فقال لي وقد اعترى وجهه المنمش تعبير الشطارة: “لقد نصحني أحد رجال المعاينة سلفاً أن أنكر. وهو قريبي.” فقلت ودمائي تغلي: “أبهذه البساطة؟” فأجاب بنعم. فمددت أصبع السبابة، أقول له وأنا أتميز غيظا: “سوف تحرق هذا المحزن يوماً.” نظر بوجل إلى أصبعي المصوّب نحوه. وارتعد، وتقلص في جلسته. وعندما كشكشت يد كمساري تحته، أسقط بصره المرعوب عليها دون أن يفهم شيئا.
انتابني إحساس بأنه على استعداد للتوبة. أن خلاصه في التوبة عن جريرته. فسألته بصوت الواعظ الحليم:
“نيرون؟”
فأجابني حائراً: نعم.
فقلت له وأنا أغمض عيني ضجراً: “ادفع للكمساري وأحرقها، فروما لا تخصني!”
انتهت.