‫الرئيسية‬ مقالات في أنْ تكونَ “جنجويدياً” أو في الانمساخ
مقالات - 15 أغسطس 2025, 2:52

في أنْ تكونَ “جنجويدياً” أو في الانمساخ

صلاح الزين

(تكتمل قراءة هذا المقال رفقة توأمه الآخر والمنشور بعنوان: “في أنْ تكون اخو مسلم أو في الانمساخ” مع اختلاف كلا جغرافيا الكتابة وزمنها) {*]

هو أنْ تكون إحلالياً وحلولياً في ذات الآن، تَرى في مكان الآخر، الهناك، مِلكاً لك بالغريزة المنفلتة من التاريخ وعقله لإعادة التاريخ لمملكة السماء ليكون تاريخاً يسير بأرجل الشهوة وما تشتهيه رابطة الدم وشجرة النَسَب. الغريزة غير الملجومة بمواضعات المكان والزمن: الزمكانية.

المستنبَت والمستحدَث من ضلع انحطاط الخطاب تعلوه تفاهة الخطاب ورثاثته فيصير أكثر انحطاطاً ورثاثةً بوصفِهِ كائناً انزلق من ما تعفَّنَ هناك: امتداد واستطالة تافهة لضلع الخطاب، الخطاب العربسلامي. والاستطالة تُستحدَث لرتق ما انفتقَ ووهُنَ منه المسير. نعالٌ تُلْبَس لِقَدَمِ الخطاب ليسير فراسخاً خطابية أخرى، زيٌّ يُرتَدَى لتمويه الفرجة بِتَبَدُّلِ النَص والمُخرج والممثلين والإكسسوار. مرايا تَنظر لبعضها فلا تقول إذ تقول إن التوأم لتوأمه رحمة وافتتان.

وككل استطالة تنقصه سعة الخيال. لا يَرى في الخطاب العربسلامي الذي استحدثه غير ما يراه ذات الخالق في مَن خَلَقَهم ليُورِثوه: مجرد أَقدامٍ وأكتافٍ فَتِيَّة تحمل الخطاب من شيخوختهِ إلى طفولةٍ لا تورِّث كلا الخالق والمخلوق سوى الرثاثة وعطن التصابي. مِن تآكل ذاك يُولَد هذا كطرف أو مستوىً في بنية الخطاب. تنفجر حربهما، حرب أبريل 2023، كحتم ضرورة توزعت سواعِدُها لصد انتفاضة الديسمبريين.

هو، أعني الجنجويدي، كائنٌ عيانيٌّ تنقُصُه فصاحة الخيال، الخيال الذي لا يَرى فيما تراه العين إلا شبحاً تسوقه ريح اللعنات. هي ذات عينِ خالِقِهِ الذي يعتصم بالسماء. كائننا هذا لا يَرى إلى الأرض بمن فيها، فذلك من طبيعة المستنبَت بوصفِهِ بأبوةٍ يُجهَل نَسَبُها وإنْ عُلِم. يراها كما يَرى الصقر فريسته.

المحوُ والإفناءُ طبيعةٌ فيه ببداهةِ لونِ بشرته وإنْ تغايرت الفصول. لذلك حَمَلَ ممحاتَهُ، كما رسامٍ يحمل عُدة ألوانه، واعتلى سرج الريح دابةً يغشى بها حيوات الناس وذاكرتهم، أينما كانوا، وكأنه إلهٌ إغريقي يغسل ما سبقه من آلهة وملحمة وميثولوجيا. أعمَلَ ممحاته قبل ربع قرن من الزمان فأحال دار فور ومن فيها إلى مجرد أفواهٍ تستجدي السماء وشاحنات الإغاثة.

أسطوري هذا الكائن، وكما الأسطورة بلا جغرافيا ولغة تُعرِّفهُ. يُعرِّفُهُ ما يَترك خَلفَهُ مِن خراب وانفصال المعنى عما تقوله اللغة حينما يموت اللسان.

قلِقٌ هذا الكائن وبِقلَقِهِ ذاك يحمل الخراب لعنةً ينثرها كصبيبِ غيمةٍ أخطأت دَربَها الرياح. بما أُوتِيَ من خيالٍ يَرى إلى الاغتصاب بعينِ خيالٍ معطوب. يرى، هذا الذي يحيرنا، إلى فعل الاغتصاب كانتصارِ سردياتٍ ونصوصٍ على سرديات ونصوص أخرى.

يهمِس له عقلُ خيالِهِ كون الاغتصاب هُوَ هُوَ إسكاتُ صوت الضحية حتى لا تَكتب نَصّها وتسرد سرديتها لتكون. فيغتصب. تسعى قافلةُ خيالِهِ تلك، في حلها وترحالها، لإخراس الصوت الذي به يُعرَّف الكائن كما يُعرِّف الغيمُ سفورَ البرق وتُعرَفُ الخيبةُ بما يلي من خيباتها. فهو لا يحتمل كائناتٍ بصوتٍ وملفوظ يسمِّي الأشياء بمسمياتها فتعرف وجودها. فهو، كاستطالةٍ مستحدَثة بعقدِ إيجارٍ وبندقية، عاجزٌ عن التمييز بين الخيال والأيدولوجيا.

الكائن هذا لا يُسمِّي الخرابَ خراباً ولا السطو سطواً. يُخرِج من كنانة قواميسه ما يعيد تعريف المفردة والمصطلح، فيسمِّي السطوَ “شفشفة” والاغتصابَ فحولة، التنزيحَ تكتيكاً، والخرابَ انتصاراً. لا تنقصه مهارات الاقتصاد السياسي للُّغة وقد شب عن الطوق.

محتقباً مرسمه وأدوات رسمِهِ، لا يعجز عن رسمِ لوحةٍ بدأها ذات دهر هناك، هناك في براري دار فور، ليعيد رسمها في ولاية الجزيرة من غير إدراك لتباين الفصول ورائحة الطعام. فالخراب خراب إنْ كان صيفاً أو شتاءً، والرسام هو ذاته بـ”كدمول” بذيلٍ طويل أو قصير وإنْ تباينت ألوانه. هو لا ينتمي إلا للخراب وإنْ تغايرت ألوان اللوحة وتبدَّل مكان المرسم “القاليري”.

لا انفكاك له من ما أطعمه الصانع وأرضعه ذات دهر وانحطاط. بانحطاطِ المستحدِث يُعرَف المستحدَث وتختفي الظلال.

وكأنه مقدودٌ من ضوءٍ وهواء، لا يتعَب هذا الذي يحيرنا. فهو، ومنذ أكثر من عامٍ، يحاول تسوُّرَ جدران مدينة الفاشر التي يقتات سكانها من ما تقتات به حيواناتهم. فتحتار أكثر.

وبما له من قدراتِ الإحلالِ فقد عملت أسرة “دقلو” على احتياز واستثمار هذا الخراب بوضع اليد بوصفها استطالة ذميمة اُستُلَّت من ضلع الخالق الذي أوجدها لرفوِ قماشةِ خطابِهِ إنْ تناوشها التاريخُ ومكْرُهُ، فالتاريخ بسيرورات لا يؤمن لها جانب. فكان هذا الكائن بِدِربةٍ ومهارات فوق توقُّع ما رسمه الخالق، خالِقُهُ.

فالبنية، بنية خطاب حرب أبريل 2023، لها من القدرات ما يصد وهن خطابها وتآكله: يرتقي أحد مستويات بنية الخطاب إلى صدارة الخطاب بما توفره طبيعة السيولة الخطابية للبنية من الانتقال من البنية ذات المركز الواحد إلى أخرى بأكثر من مركز من غير خروجها عن بنية ذات الخطاب. فكان كائننا حاضراً عند منحنى البنية، بنية الخطاب، ليسند تفتُّت البنية ويعيدها إلى اتساقِ سيرورتها وتماسكها.

ذكي هذا الكائن الجنجويدي، ذكي بقدرةِ محاورةِ شبحٍ ضَلّ طريقه إلى مرابع القطيع!! فاستحدث، هذا الكائن الذي يحيرنا، وبما له من قدرات فطرية، أنْ استل من الخراب ما يجعل للخراب معنىً لا يشذ عن جينالوجيا بنية الخطاب، خطاب حرب أبريل 2023. فنَشَرَ قارب التغريبة “النيروبية” شراعَهُ لريحٍ وبوصلةٍ أفضت به لساحل حكومة “تأسيس” التي دفنت سرتها في مرابع أسرة “آل دقلو”، صاحبة الهيمنة العسكرية والمالية، والمعقود طرفها على وتدٍ مغروس في ما وراء البحار.

وهكذا أصبح، مَن كان يسمى بـ”حمايتي”، على رأس حكومة تأسيس ليعاد تسميته بـ”الأمير”، كما يحلو لاتباعه حديثاً مناداته. إنه الأمير على ظهر حصانه ميمماً شطر إمارته!!

البر بالوالدين هو ما يميز كائننا ذاك عن غيره من الرصفاء، فقد أرضعه الثديُ العربسلامي وأَوكَلَ إليه، كطرفٍ مستحدَثٍ، أن يكون مخزناً يحتوي على كل ما من شأنه أن يفتك بما قد يكون سوساً محتملاً لنخر مفاصل الخطاب. وما خيب ظنه.

ولكائننا هذا مِن الجناحين ووفرة الدربة ما سَمح له أن يحط على كتف الإله “جانيوس” ليكون أحد رأسَيْهِ: رأس “جنجويدي” وآخر “فلولي” حتى تكتمل ربوبية الإله “جانيوس” ويبارك الخطاب، خطاب حرب أبريل 2023.

هكذا يطفو هذا الكائن فوق ماء الخطاب، خطاب حرب أبريل 2023، لا لعدم قدرته على الغوص وإنما، مِن موقع طفوه ذاك ، يرمم ذات الخطاب، الخطاب العربسلامي، ويرتق فتوقاته وفي ذات الآن يستعلن نفسه طرفاً في الحرب ضده.

كلاهما، “الجنجويدي” و”الفلولي” مرآة تعكس صورة انمساخهما الرثة. وما يزيد حيرتنا أنْ نُطالَب بالاصطفاف لأحد طرَفَيْ الخراب ونَهجُر شعار الديسمبريين: العسكر للثكنات والجنجويد ينحل!!

_______________________________–

{*] ستقوم مداميك بإعادة نشر مقال الكاتب  (أنْ تكون اخو مسلم أو في الانمساخ)

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 1

كن أول من يقيم هذا المقال

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *