قصة قصيرة - 8 أغسطس 2025, 9:23

نطرون

قصة :  مصطفى مدثر
ساط محتوى القصعة بعود، ثم أعمل فيها كشطاً مزعجاً ارتعدت له عروقي.
كانت بيننا طاولته المزدحمة، وهو شبه مخفي في عتمة دكانه، يهرش من حين لآخر، لحيته الموخوطة بالرماد، كما لو أن سراً قديماً ثوى فيها.
بدا لي أصغر من سنه في الحكايات. على وجهه مسحة امتعاض قديم وفي جسمه تماسك ونخوة.
أنه الغريبُ الذي تسلل كالظل إلى بلدتنا القاحلة.
لم ينتبه لقدومه أحد، ولا تدري نفسٌ كيف ومتي برز دكانه من تحت أطلال بيت عتيق في طرف القرية القفر.
سربٌ من العثة دار حول المصباح الخافت المتدلي من سقف الدكان. الرائحة الترابية اللاذعة، التي أثقلت هواء المكان الضيق، أخذتني لأزقّةٍ أديمها الغبار وأبخرة البهار، في سوق المدينة التي تركتها منذ شهور. لمحت على رف خلف الرجل كتاباً مهترئاً عنوانه “الخيمياء الحقة”. قرأته بصعوبة، وبدا لي كأنه تذكار من حياةٍ سابقة.
قلتُ، وبخاطري احتدام وقلق، يشوباني،
وصوتي بالكاد يقطع الصمت: “السلام عليكم.”
“عليكم السلام”
“دلني لدكانك أهل القرية.”
لم يرفع بصره.
“أبتغي رطلاً من السعوط.”
رد بنبرة عميقة، كأنه يخاطب شخصاً آخر: “أصبر قليلاً يا إبني، ليس جاهزاً بعد.”
كان مذياع في ركن ما يبث غير عابئ بالظلام لكنه لا يكاد يبين.
سألته بضيق متصنَع: “لِم الانتظار؟ أيُ ساينس science وراء هذا الشيء؟
انبعثت منه ضحكة خافتة؛ وعيناه مثبتتان على العلبة، وقال بنبرة فيها حزن: “لا يوجد عِلم هنا، بل حكمة قديمة!”
قبلتُ إشارته لأن هناك تقاليد في الإعداد فاكتفيت بما أبديت من روح الزبون المشاكس وعدت بأفكاري لأمي. لا تريد مغادرة القرية. وأخي يبخل عليّ بتأشيرة. حسبت أن صاحب الدكان لا زال يكلم شخصاً لا أراه، فشفتاه كانتا تتحركان ولا أسمع صوته.
كان وقتي وافراً للانتظار فقلت أقلّب في ذهني العَكِر، فرأيت أمي على سريرها وتمنيت أن ترضى بالرحيل إلى المدينة للعلاج، لكن أخي يماطل، يُبقيني معلقاً بأملٍ كاذب.
ومضى بعض الوقت، كدتُ فيه أن أنبح لأحصل على (سفّة)، لكنني آثرت أن أطرق الذاكرة القريبة فوجدت أن أسلوب الرجل في الحديث كان مصدّقاً لما جاء عنه في الأخبار. وها هو يلقي على شبح لا أراه بعضاً من درر الكلام حين قال: “إن تعجلْ تفشل،” ثم نكس رأسه قليلاً كأنه يطمئن على وجود المسبحة التي أسدلها من عنقه، وأبصرني بأجفانٍ ظليلة وأضاف: “الجودة تنحني للصبر، لا للتسرع.”
رأيت في قوله الأخير تأنيباً طفيفاً لي. ومن معطف مزاجي المضطرب، تسلل إلى نفسي شعور بالتناقض. كنت قد استهجنت السعوط رغم أنني ألجأ له أحياناً لتحسين المزاج.
وكأنه اطّلع على أفكاري، مال في مجلسه، وأسند ظهره إلى الوراء ولمعت نظرته كالنصل الحاد في غيم الدكان.
قال: “تظن أنه مجرد سعوط، أليس كذلك؟” وأشار إلى العلبة، سطحها المجروح لا زال يتحداه. وقال:
“هذه نبتة ذات إرادة يا إبني. ليست مجرد سعوط، فهي لا تعطيك إلا إذا أصغيت إليها.”
قلت في نفسي: كأن هذا السعوط يحمل سراً ينتظرني أن أكتشفه!
وقوّست ظهري، فصرت كالموزة، أو كالضجور حين يسمع ما لا يود طرقه من حديث وقلت له من زاوية جانبية:
“هل سأحتاج إلى كتاب حكمة لأفهم سعوطك هذا؟ هي سفة لا تمكث طويلاً، أدخن بعدها سيجارة، ثم ألاحق أثرهما بجرعتين من الراح وأرحل.”
وصمتُ ثم أضفت كأن ما قلته لا يكفي: “أي شيء يطمس هذا الانتظار الذي لا ينتهي.” قلتها بجرأة.
ضاقت عيناه، وارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه وقال. “أبهذه الرذائل الثلاث تتجاوز تيهك؟ تطارد النشوة لتفلت من الحقائق. السعوط لا يُنسيك، بل يُوقظك لترى ما تهرب منه.”
هززتُ كتفي لا مبالياً، لكنني اندهشت لإمعان الرجل في الحديث بطريقة مفارقة للمتوَقع، وهو الذي يحضرني سرد عنه يقول إنه طالب كلية العلوم المبعد في زمن مضى، هجر حياة المدينة ولمع اسمه بعد أن تكلم عن سموم ملقاة على عاتق الأرض في جغرافيا قريبة من قريتنا. وهناك قصة أخرى تحكي عن تضييق أمني حدث له بشأن قوله عن نفايات، وقد انتهى به هذا التضييق إلى أن يستقر في بيت قديم في طرف القرية أقام فيه دكانه الصغير.
أشار بإصبعه المُرتجف إلى القصعة دون أن ينظر ناحيتي وقال. “هيّا إذاً، افتحها وتناول (سفّة)!”
حامت يدي حولها، لكنّ شيئاً ما، منعني. لم أستطع لمس الغطاء، كأن السعوط قد غضب من سخريتي. وأحدث هو ضحكة خافتة تقَصَف فيها صوته كأوراقٍ جافة جرفتها الريح، وصمت.
ثم رفع عينيه لكنه لم يحفل بعجزي عن لمس الإناء.
“أرأيت قوة النبات؟” قال، وهو ينفض فُتاتٍ من على كتاب عتيق، أتلفه خلط السعوط على مقربة منه.
وأضاف برنة عتاب: “لقد شعر باستهجانك.”
“كيف يشعر السعوط؟” سألتُ بوجه ساخر، وأنا أتحسس يدي فأجدها سليمة. واتفرغ لأعجب من خلطه الغامض بين صفات الخلائق.
حكّ لحيته، وبدا وجهه كعالِمٍ منفيّ عن ذاته، وفي نفس الوقت مرآةٍ لمعارف دفينة.
“النطرون ليس كما كان، لوّثته أيادٍ لا ترحم.” شرَحَ ويداه ترتجفان قليلاً، كأن ذكرى قديمة أثقلته، وأضاف: “ليس فيه القلَوِية الكافية لتحرير روح السعوط.”
قلت في سري، النطرون جرّبه الفراعنة في التحنيط، أي بعد خروج الأرواح والآن يقول الرجل إنه ينفع في تحريرها، في سياق آخر!
لكنه لم يرتقب تعليقي، بل قرأه وأومأ لي استحساناً. وأضاف بعد برهة: “هناك أيضاَ تلك المعلومات عن تلوّث إشعاعي في الآفاق؟” ثم انخفض صوته، وتقاطع طيفٌ مع عينيه، وهو يقول: “ظللت أُجري تنقية للنطرون لأيام، أُخرج منه السُم الذي يتجاهله الآخرون.” وسعل خفيفاً فلمع نور خلفه، وصدر من كرسيه صرير وهو يحركه، ثم أشرق مُفعمًا بحميّة هادئة وهو يقول: “لقد ذهبت يوماً لأستاذ في كلية الزراعة، زاملته في الجامعة، لكنه لم يأخذ كلامي مأخذ الجد.”
كان نبضي قد تسارع عند عبارة “تلوّث اشعاعي”. تذكرت كلام الناس عنه الذي وردت فيه نفس العبارة، ولكن خطر ببالي، بغتةً، سؤال عما إذا كان هذا هو الشخص المقصود فيما يتداوله الناس. ربما كان مصدر شكي هو اشرافي عليه وهو قابع في دكانه شديد التواضع، إذ في تلك الوضعية، بدا لي أصغر من بطل تلك الحكايات!
التقارير التي كذّبتها السلطات حكت عن شركات أجنبية تدفن نفايات ذرية، مدهونةً بموافقة الحكومة الصامتة، في وادي النطرون. وقد أزعجتني تلك التقارير، على الأقل لأن لي أقرباء يرعون خرافهم في تلك المناطق. ثم راجت بين الناس أقاويل مبنية على شجب هذا الرجل لتلك الخطايا. كان صوته، بعد أن ضخّمته الحكايات أعلى من أن يتحمله أصحاب القرار. ويحدثني عن ذهابه لخبير زراعي، لماذا لا يذهب لأعلى من ذلك، لأهل الحل والعقد؟ لكنني كتمتُ هذا السؤال حتى لا أبدو أعرف منه فيغضب ويكلّفني ذلك (سَفّة).
وانغمس العجوز في حلم يقظة، ربما كطقس من طقوس الانتظار، ولمس حافة الإناء بطرف إصبعه المرتجف، دون أن يطرق عليه، ثم قال بصوتٍ ناعمٍ، ولكنه مُتقدٌ، كأنه دعاء: “النباتات ليست مجرد أشياء. إنها حيوات نابضة بالتفاعل وقد تتخذ مواقف.” ثم فتح عينيه قليلاً وقال: “هل كنت تعلم أن صمغ الأكاسيا يزدهر في عهود الديكتاتوريات؟”
رمشتُ من طرافة قوله وسألته: “هل تعني أن الصمغ يختار موقفاً سياسياً؟”
أومأ برأسه، ونظر بعيدًا وهو يقول: “بعض الباحثين قالوا بذلك. كانوا يقطعون اللحاء في حكم الطاغية، فيتدفق عليهم الصمغُ مليّا. أما في الديمقراطيات، بناخبيها وصخبهم، فرأوا أنه يشح.”
“هذا… غريب يا أستاذ،” وكنت في الحقيقة مشغولاً بالنطرون الذي كان استخدمه اليوم.
“ما غريب إلا الشيطان،” أجاب على دهشتي، ثم استرخى في مجلسه وغرق في غيبوبة من تمتمات بدا أنها كلمات لا دخل لها بغرضي. لكنه عاد، فجأة، ليسأل في وضوح: “هل أتاك حديث الزعفران؟”
هززتُ رأسي نفياً مع أنني قرأت أن بعض أصحاب البساتين حول العاصمة يزرعونه في بيوت محمّية طمعاً في رطل منه، فالرطل منه بالشيء الفلاني لمسرات الأغنياء.
“إنه فيلسوف، ذلكم الزعفران” قال، ثم خفَت صوته إلى همس واضاف “نباتٌ فيه روح زكية.”
ولكي أفهم ما قال به عن النباتات، وقد رأيت أنه أحصى خصائص مدهشة لبعضها، وجعل نبتة التبغ من عظائم النبات، عدتُ لما ورد عنه، إذ أزعجه يوماً سؤالٌ في امتحان الكيمياء، فاختار أن تكون اجابته أبياتٍ من شعر وردزورث، كتبها وخرج. وقيل إن أهل حيّه وصفوه بالحكمة، ولكنه كان، اغلب الوقت، عاطلاً عن العمل، ثم فيما بعد، وهذه واقعة لم يتفق عليها الرواة، حصل على البراءة في حادث ماتت فيه زوجته، واختفى من المدينة، ليُنبذ لاحقاً بسبب تصريحاته المثيرة عما وصفه ب “التسميم الصامت للأرض”. كنتُ أعرف هذه الشذرات من قصته، جمّعتها من أحاديث العابرين للقرية ومن مباحثي الخاصة.
“لقد أُسيء فهم الزعفران”، تابع الرجل حديثه، وعيناه تلمعان بنارٍ لم أستطع تحديد بؤرتها. “النصوص القديمة لا تحفل به لأنها كُتبت من قِبَل مجتمعاتٍ فظةٍ غير مؤهلةٍ للعناية به، فالزعفران يقتضي مجتمعاً مثقفاً.”
أثار قوله الأخير عاصفة النطرون في عقلي، فالمثقف هنا هو نديد العارف في رقته أو الرقيق في معرفته، لا فرق. لقد هبطت عليّ كلمة “مثقّف” كظاهرة صوتية لا سبيل لسماعها في هذه القرية، تذكرت سذاجتي في توقع أن تأتيني التأشيرة سريعاً، الأمر الذي أنساني كتبي وخططي في استئناف دراستي لشهادة في الأدب. لقد حسب أخي أن كلينا سينال ثواباً من رعاية الأم لو بقينا على حالنا، ويقصد أنا في القرية وهو في بلد بترولي. كتب ذلك في خطابه، دون أن يسأل عن مستقبل دراستي!
لاحظ ذلك الأستاذ، وأضاء بابتسامة شاحبة لكنها واعدة، وقال: “الآن أحرز السعوط توازنه!”
“قل كلاماً مفهوماً يا أستاذ،” صحتُ بانزعاج.
لمع في عينيه المظللتين بريقُ المداعبة الخشنة وقال: ” أعني أنه جاهز للتخزين!” ثم ابتسم، كأنه أيقن أنني مستعد، وضرب الماعون بالغطاء وفي نفس الآن قال:
“خذ لك (سفة)!”
فأفزعني محتفظاً بنفس الابتسامة!
ومددت يداً مرتجفة للوعاء. اختلط خوف التلوّث عندي بتوقي لمكافأة نباتية على احتمالي فجاءت فحوى ذلك الاختلاط أقرب للفرح من أي حس آخر. وغرفت بملعقةٍ صغيرة من محتوى الإناء في دُكنته المفلفلَة فشعرت بدفقة من الوضوح، كأن السعوط قد نفض غبار القرية عن قلبي. وفاضت من عينيه جاذبية في قوة إرادة النبات التي حكى عنها فعاد لجذوتي شعاعٌ باهر كان قد خبا.
انتهت

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 4 / 5. Total : 1

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *