‫الرئيسية‬ مفكرة الحرب مورفولوجيا الصورة.. تأملات في الصورة (العائلية) في زمن الحرب
مفكرة الحرب - 28 نوفمبر 2024, 6:35

مورفولوجيا الصورة.. تأملات في الصورة (العائلية) في زمن الحرب

صلاح الزين

في مكان آخر كتبتُ إن “الصورة هي ظل الكائن وإنْ انحتف! هي مُعاكسةُ إرادةَ الخالق وإنْ كان رحيماً كغزالة” (كتاب المُهمَلات، صفحة 48). وأيضاً “هي زِنا الغياب. كيف تزني بمن هو ليس هناك حتى تعاقبك الآلهة!”.
وفي الصورة شيءٌ من سُنن الكون: شيءٌ وضده، ما كان هناك وليس هنا الآن، كمَوْتِ أُمكَ أو فراشةٍ عَجِزَتْ عن لثم الوردة وهي على بُعد رفَّةِ جناحٍ منها!

وللحرب مهارات كثر، كأن تكون للصورة صورةً أخرى شبحها، كما للسراب ماؤه.

وكما العطر الذي يَنتهِكُ المواضعات، الحرب مُعْدية ومثل العطر لها قَبلٌ وبَعدٌ. فصورة العائلة أو بعض أفرداها زمن الحرب ليست هي ذاتها زمن اللاحرب. فالصورة تشيخُ وتتبدل كصلاة بتيَمُّمٍ وأخرى بوضوء.

صورة زمن اللاحرب لا تستوجِب الاعتذار، اعتذار الغائب للحاضر أو العكس. يمكن جرها برَسَنِ الخيال، راضيةً ومن غير عسف، لخارجِ الإطار، إطارها المُزَنَّر بزغب الزمن وعنكبوت الذكريات، والتحدث إليها كما تتحدث إلى نفسك في المرآة من غير أن تكسرها إنْ حادت ذكرى عن مجرى العسل وشهوة النحلة.
هكذا، هكذا بعطرٍ لم ينتلف بعد فيَتلِف المؤانسة وشبَقٍ غامض، غامض كغُروبٍ خجول، وبعدها كلٌ يذهب في حال سبيله: أنت إلى مساء بنبيذٍ وشُرفةٍ لا تطل على ما تحتها، إنْ كان امرأة أو خيبة، والصورة إلى إطارها المعطون في ماء الغياب وعلف الزمن.

الصورة تلك تتذوق وتَرى كل شيء: لهب القبلة الأولى، خيبات تتشرنق لتكون، كأس عَرَق يفتضّ بكارة بستان، وحارس بشفاهٍ مزمومة، تأملات ليس لها من التأمل إلا عورته وجفون مثقلة بالنعاس، تَرى كل شيء، كل شيء إلا الحرب!!. فالحرب لم تُولَد آنذاك ولم تكن لعاباً حتى وكاميرات التصوير لم تبلغ الرشد لتتفنن وتَخدع. الحرب اِنسلّت من خفرها لاحقاً كحيّةٍ تُبدِّلُ جلدها وتلعنُ تبدُّلَ المواسم وزعاف سمها.

وقتُها، والحربُ لم تَبلُغ مقام الخاطرة بَعد، كانت الصورة، صورة العائلة، مشغولة بما سهَتْ وسقطَ عنها من نثيثِ ثرثراتٍ يصعد به اللاحق جبل الزمن ليبلغ مسامعَ الغابر المقذوف في ماء السديم وجلال العدم، ويهمس له متحرراً من ثِقَلِ النقل والإبلاغ وحتى من رائحة شمع أذنيه!!

هكذا كانت الصورة، صورة العائلة المتحررة من كل شيء، كشمسِ ظهيرةٍ وديكٍ ضجِر، إلا إطاراً بنعلين ورباطاً يخيط رتقاً قد يسمح بانفتاق قِربَة الذكريات وسيل ماء الحكاية. هكذا إطارٌ ينوءُ بصورٍ بعذريةِ السيدة مريم وحقلٍ لم يُحصَد بعد.

ولأن للصورة شيءٌ من سُنن الكون ومكر العباد فقد انجبتْ صورتَها في زمن الحرب حتى يكون للآلهة اتساق وتاريخ يستر ما قد يبين مِن عورة لا تليق بمقامها وقدسية عرشها.
فكانت الحرب حرباً على ثبات سنن الكون لتنفذ الضرورة خلل خُرمِها، كقابلة ببصيرة ومشرط، فيكون للكون نسلٌ وذرية يتعاشقون فينجبون ليتقاتلوا ويُقتَلون ويَقتُلون حتى تستعصي الحرب على التعريف ولا يُعرَف لها مسكنٌ وريح. بل الحرب ريحٌ بمكنسةٍ تمحو ما قد كان، وإن عجزت تُحدِث ثقباً توسِّعُ رَتقَهُ رياحٌ أخرى على سرجِ دابةٍ بِرَسَنِ وشمٍ مغاير.

هكذا تكنس الحربُ صُورَ ما قبل الحرب كهبوبٍ تمسح أثَر أَقدام لصٍّ فوق درب ناعم فيُفقَدُ اللصُّ والمسروقُ وما كان لأَقدامِهِ مِن رسمٍ يُرشِد لإتمام الحكاية.

الحرب حكايةٌ تُحكَى بين صورِ ما قبل الحرب وما بعدها. حكايةٌ ينخرها وَسَنٌ كطلاء لا يزول. فتصابُ العينُ الناظرة للصورة، في ما قبل حربها وبعدها، تصابُ بِحَوَلٍ أنطولوجي فتنشطر الحكاية ولا تُكِمل حَكْيَها. انشطارٌ في البذرة وبلولة طينها لتنبت عشبة يتأمل نِصفُها نصفَهُ الآخر في وقارٍ وكبرياءٍ يليق بصمتهما وموتِ الكلام.

تَخرُجُ صورة ما قبل الحرب عن إطارها لتُصلح خدوشات ألَمّت بنصفها الآخر، الآخر المعطون نصفه في بِركة الحرب، لتتعرف عليها ومِن ثم يكملان سرد الحكاية كعصفورين يُطعمان بعضهما.
يتعب العصفوران مِن حَشرِ الطعام في منقارَيْ بعضهما فيطيران ويَحطّان على غصنين على بُعد نَفْشِ جناحٍ ونِبالِ صيادٍ ذَرِب، ويتناجيان.
فتحتار الحرب، الحربُ المَزهُوَّةُ بتعدد أنصافها، مِن كيف يكون لكائنٍ مَن كان نصفين، فقط نصفين إنْ ضاع أحدهما انعدم الكائن.
تسجد الحرب وفي سرها تشكر الله أنْ وهبها تعدد الأنصاف ليكون خلودها قبالةَ مَن بنصفين إنْ ضاع نصفه أضاع الآخر فيخلد العدم.

الصورة شُبّاك، شُبّاكٌ ضيِّقِ الأصيص ككائن يُبشَّرُ باتساع الوجود وهو يكسر بيضةً !!

من نسل كل الحروبات، هكذا حرب أبريل 2023، تَشطُر الصورة فتنشطر حكايتها إلى حين التقاء النصفين ليكملا الحكاية حتى ينام الأرق على مخدةٍ محشوةٍ بوَبَرِ السحاب.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 3

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *