إعادة تموقع اللواء “كيكل”: في مَكْرِ الخطاب وحِيَلِهِ!!
صلاح الزين
اللواء “كيكل” لم يبارح موقعَهُ في بنية خطاب الحرب حتى يصحّ القول بأنه عاد. مَن عاد هو مَن بارحَ جغرافيا موقعِهِ وما يتبع ذلك من إبدالاتِ المواسم وعادات الأنواء. لذلك ما يصح في الجغرافيا لا يصح في جغرافية الخطاب وزمكانه.
جغرافية ذاك ليست ذات جغرافيا هذا وإلا بَطُلت حكمة الأهالي “العرجاء لمراحها” وما تقوله الشعوب هو بقداسة الأديان وقول الآلهة، بل وأعلى كعباً!! إذ الحكمة الأولى، حكمة الشعوب، بِنَعْلَين من طين وتاريخ بينما الثانية، حكمة الأديان وقول الآلهة، بنعلين من سماء وهواء وعارية من طين وغبار.
خطاب حرب أبريل 2023 برأسيه “الفلولي” و”الجنجويدي” يمتلكان من سيولة الإبدال والتسامح ما يجعلهما يمتلكان ذات مصنع الأزياء من غير منافسة في طرائق الخياطة وجودة الغزل. هذا مِن ذاك وذاك مِن هذا إذ القافلة لا تُغيِّر خط سيرها، وإنْ تعرَّج أو اختلف صوتُ الحادي وأهازيجُهُ.
مَن استحدث “الجنجويد” قبل ما يقارب ربع قرن من الزمان هو نفسه مَن استحدث “جنجويداً” آخراً قبل سنوات. الأول اُستُحدِثَ وتم تسكينه في براري دار فور بينما الثاني خُلِعَت عليه براري “البطانة” في الوسط. أحدهما أُنيطت به محاربة ما نهضَ من حركات مسلحة في تلك الأصقاع بينما الآخر محاربة القادم من المستقبل ومحتمل ووشيك.
كلاهما، “الهناك” و”الهنا” توأمان سياميان أنجبهما رحم الخطاب العربسلامي في سعيه لأن يتسيَّد ويتأبَّد. أحدهما ب”كدمولٍ” باين بينما الثاني ب”كدمولٍ” من دخان يلبسه ويتقنع به خفيةً.
فالخطاب، خطاب حرب أبريل العربسلامي غير معنيٍّ، في كثير أو قليل، بما يلتحفه الرأس قَدْرَ عنايته بما هو داخله وصفاء النية!!
رأس “جنجويدي” وآخر “فلولي”، جسدٌ برأسَيْن وذات الجينات كما الإله “جانيوس” بذات قدراته الربوبية وهو ينظر لمخلوقاته في اتجاهين مختلفين. إنها قدرات الخطاب، أيِّ خطاب، ومَكرِهِ وهو خير الماكرين.
أنجزَ الرأسُ “الجنجويدي” ب”كدمولِهِ” الباين ما أُنيطَ به من مهام: تجريف دار فور كجغرافيا وبشر وحواكير واستبدالها بدار فور أخرى من معسكرات نزوح وإبدال ثقافي يلتهم الذاكرة ويمحوها حتى ترعرع جيلٌ بلباسٍ لا لون له، لون الفناء والعدم. وحلّت منظمات الإغاثة برطانتها وعرباتها التي تمخر صمت الحَلّال والفِرقان لتكون الذاكرة التي تغسِلُ وتسكُنُ عقولَ جيلٍ قادم، مُنبتٍّ وقادمٍ من مستقبل بلا أُبوة وحِكَمٍ تتوارث.
والخطاب العربسلامي لا يلوي على شيء حتى فاجأه الديسمبريون في صباحات 2018، وما قبلها، بما لا يود ويصُمّ أذنيه عن سماعه: “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل”.
فكان لا بد مما ليس منه بد: من كِنانته اِستلَّ الخطابُ، الخطابُ العربسلامي، حربَ أبريل وخِطابَها. وهنا تساوقت وتقاطعت دروب الخطاب، المُعلَن منها والمستتَر، مع الضرورة التاريخية وهي تُبدِّل لباسَها وزيها بزيٍّ ولباس آخر: الحرب، حرب أبريل 2023.
تحسّسَ الخطاب، العربسلامي ذاك، موقع رِجْليه في برية خطابِهِ وبِنْيتهِ. وبمَكْرٍ معهودٍ فيه، كأيِّ خطابٍ يسعي نحو اكتمال بَدْرِهِ، اِستلَّ الخطابُ من ضلعه طرَفَهُ “الجنجويدي” وأذابَهُ في بنيته وامتصَّهُ ليكون أحد مستويات بنية الخطاب حتى نشأت قرابةٌ طبقيةٌ واقتصاديةٌ سياسية بينهما كرافد سخي لتمتين بنية الخطاب، الخطاب العربسلامي. بل لم يكتفِ بذلك، إذ شهية الخطاب لا مشبع لها ولا راد. اكتمل قوس الخطاب بجلب طرفه “الجنجويدي” والتوسيع له في السياسة والمكان، كجغرافيا وأحداث، لاستحالة الفصل بينهما، ليقف في وجه هتافات الديسمبريين في ذات المكان والأحداث.
اكتملت الأُبوة والبُنوة وترافقا مردوفين على سرج واحد ليكملا ميلاد النشيد، نشيدهما. فكان أنْ استَقدَم “الهناك” إلى باحات “الهنا” حتى لا تتوزع قدرات الخطاب بين هنا وهناك وما هو آتٍ ومحتمل.
ومن ثم نظر الخطاب فوق كتفيه وأجالَ النظر وأعمَلَهُ. وحتى لا ينثقب الخطاب المُساط من قَفاه، خطاب حرب أبريل العربسلامي، بأهازيج الديسمبريين وهتافهم، أقول أَوْلى الخطاب عنايةً واهتماماً بالمحتمل والمنظور. فالخطاب لا يسير في خطٍ مستقيمٍ خالٍ من الحِيَل والنظر إلى الأمام والوراء. ومن المحتمل الذي يتلامح، كفجيعة محدقة، والمقروء بعين الخطاب ومَكْرِه ارتأى تأسيسَ “جنجويدٍ” آخراً بمراكبٍ وساريةٍ وهواء لبلوغ مبتغاه. فكان ميلاد “درع البطانة”، قبل سنتين، مِن ضلع الخطاب ورحمه. ضلع له “كيكله” ليمد يده إلى نظيره الآخر ب”دقلوِّه” ليكون الوصيف في عرس الخطاب: وفي القول المأثور “إنما المؤمن للمؤمن رحمة” والله أكبر، الله أكبر ما يطرب الروح ويُوحِّد الدروب!!
استلفَ الضلعُ “الكيكلي” من نظيره “الدقلوي” فنونَ الزراعة ونَثْرَ البذور في حقول الخطاب والسهر على الرعاية والسقيا.
وكأيِّ خطابٍ ناهضٍ، لم يُولِ خطابُ حرب أبريل العربسلامي شأناً لمتغيرات الجغرافيا والمكان وقاطنيه إذ الكل، من غير استثناء، فضاءٌ لبرية خصبة تغري بالزراعة وانتظار الحصاد. قماشةٌ يُطرِّزها الخطاب، كيفما اتفق وأينما وكيفما تكون، زياً يستر عورته ويصُمّ أذنه عن هدير الديسميريين: العسكر للثكنات والجنجويد ينحل.
وبتلك الدِربة والمهارة المُستلَفة من الضلع “الدقلوي” أَنجزَ النظير “الكيكلي” ما أناطَهُ الخطابُ به وعلَّقه على كتفيه. فكانت ذات الترسيمة والصورة demarcation and replica الحافر حذو الحافر. سطوٌ واغتصاب، سرقةٌ ونهبٌ وإذلال، قهرٌ واقتلاعٌ وإحلال، إبدالٌ ونزعُ حواكيرَ وحصاد، تهجيرٌ وإفراغٌ “للهناك” في مفازات دار فور و”الهنا” في المدن وحَلَّال ولاية الجزيرة.
فالخطاب، في اتساقه، يحمل ذات المرايا لتجوِّد وتُبْرِز ذات الصور واللوحات، غير مسموح لها بالخروج عن ما تقول علوم الفيزياء والضوء.
هَجَّرَ “الهناك” ليستوطِنوا معسكرات النزوح المبثوثة على قارعة الفقر والفاقة، بينما طَرَد “الهنا” ليقبعوا في مراكز الإيواء والإهمال: ما فيش حد أحسن من حد قبالة مرآة مَن ب”كدمولٍ” باين وآخر خفيٍّ وخجول!! كلاهما رأسٌ “جنجويدي” مُكمِّلٍ لرأسٍ “فلولي” بجسد واحد يعيد طزاجة أسطورة الإله “جانيوس” برأسَيْهِ وفيضِ ربوبيته.
للخطاب، أيِّ خطاب، بوابة للتسلل إلى بنيته كما له بوابة للخروج. مفتاح الدخول أو الخروج من بنية الخطاب مفروش ببساط تَمفصُلِ المصالح الاقتصادية والطبقية منها والسياسية لرافعاته الاجتماعية. أو قُل صنارة تصطاد تلك القرابات وتدلقها في سيل مصالحها فتذهب أينما يجرفها دفق الماء. ومِن ثم تمتلك بنية الخطاب، لما لها من آليات ومكنيزمات خطابية للسيطرة، المفتاحَ السِرّي للدخول والخروج من بنية الخطاب. كما يمتلك الخطاب سلطة توزيع الأدوار إنْ دخولاً أو خروجاً. فيمكن أن يكون الخروج عن سلطة الخطاب هو هو دخولاً فيه، والعكس بالعكس، لما للخطاب من مهارات في التمويه والإبدال.
استطراداً، يصبح خروج “كيكل”، المُعلَن عنه، ليس خروجاً عن بنية الخطاب بقدر ما أنه خروجٌ بظَهرٍ للدخول في بنية ذات الخطاب: خروجٌ للدخول من ذات البوابة والبقاء هناك، وإنْ تبدلت الأدوار، لاستحالة نزع المشيمة والثدي من بنية الخطاب والذهاب طليقاً حراً وعارٍ من ما غزَلتهُ خيوط الخطاب مِعطفاً وعطراً يميِّزه عن ما يجاوره من خطابات.
وخطاب حرب أبريل 2023 العربسلامي، برأسَيْهِ “الجنجويدي” و”الفلولي” له من الحنكة والدراية الخطابية ما يحفظ ل”جانيوس” عرش الربوبية والهيمنة.
فقد أحكَمَ هذا الخطاب سيطرته على ما استلَّهُ من أضلاعٍ تُعينُهُ على الخَطْوِ إنْ وَهنَ العظمُ منه. فالضلع يحتاج جسداً ليكون، والأخير تنحبس أنفاسُهُ إنْ خطا ضلعٌ خارج بنيته الجسدية وقوامه. سيان إنْ خَلعَ الضلع “الدقلوي” كدمولَهُ وتزيأ به الآخر “الكيكلي” ذو الخَفْر والحياء، فللخطاب سلطة توزيع الأدوار في فضاء الخطاب، خطابه، خطاب حرب أبريل المهجوس والمسكون، حد اللعنة، بما يَهزُجُ به الديسمبريون:
حرية سلام وعدالة، العسكر للثكنات والجنجويد ينحل.
للأهالي قولٌ يقول “الزول بِوَنِّسُو غرضو”، هكذا خطاب حرب أبريل العربسلامي يتسامر (يتونس) حول ما يعنيه من شؤونٍ مِن غير أن يكون خروج/دخول “كيكل” مدعاة لقذف ماء الخطاب في بركة الفناء. فقط إعادة ترتيب مستويات بنية خطاب الحرب من غير النزول عن دابة الخطاب وقطع رسنها و إنزال سرجها.
مقال لطيف وحزين