مقالات -
25 أكتوبر 2024, 15:42
إنتقال القادة بين طرفي الحرب (الاسباب والتداعيات)
25 أكتوبر 2024, 15:42
0 164
د. أحمد عثمان عمر
(١)
تفاجأ البعض بالاحتفالات الضخمة بإنشقاق قائد مليشيا الجنجويد المجرمة بمنطقة الجزيرة المنكوبة ، وإنضمامه للجيش المختطف ، الذي جعل منه بطلا قوميا ومجاهدا ، وقام قائده غير الشرعي بإصدار عفو عنه فيما يخص الحق العام كما أشيع. وهذه الاحتفالات ليست فقط بسبب ما يوفره هذا الانتقال أو فك التسجيل من ضربة معنوية للمليشيا المجرمة ، أو لأثره في إطار الحرب النفسية ، أو لأهميته من حيث توفير المعلومات العسكرية والأمنية والاستخباراتية ، بل في الاساس لأنها تأتي في سياق محاولة استعادة المليشيا المجرمة إلى بيت طاعة الحركة الاسلامية المجرمة المؤسسة لهذا الكيان المسخ الموغل في الإجرام. فقيمة انسلاخ هذا القائد من المليشيا المجرمة التي انضم إليها بمليشياه الصغيرة المؤسسة والمسلحة من قبل الجيش المختطف ، تتقوم في الإفصاح عن أسس ظاهرة الانتقال بين طرفي الحرب والسهولة التي يبدو بها إذا نظرنا إلى أن القائد المنسلخ قام برفع سلاحه في وجه رفاقه في اليوم التالي للانسلاخ والانضمام إلى العدو السابق. فعلى مستواه الشخصي ، عودته إلى الجهة التي أسست مليشياه بالاساس ، من الممكن أن يكون مجرد رفع غطاء عن دوره في عملية استخباراتية لاختراق المليشيا عبر الطلب منه الانضمام إليها ، أو نتيجة لتقديم ضمانات وإغراءات له ، او نتيجة لصراعات مراكز القوى داخل المليشيا المجرمة ، لكن على مستوى الظاهرة ، نجد أن الاسباب أعمق ، حيث أن معظم القادة العسكريين المهمين للمليشيا المجرمة ، كانوا ضباطا بالجيش المختطف ، وكذلك القادة المدنيين لها ، كانوا أعضاءا بالمؤتمر الوطني المحلول.
(٢)
والناظر لما وراء هذه الظاهرة ، يجد أن الاساس الإجتماعي لها هو وحدة القوى الاجتماعية المتمثلة في شريحة رأس المال الطفيلي ، التي ينحدر منها طرفي الصراع وتحديدا قيادتيهما المحددتين لطبيعتهما الاجتماعية. فالقائد لا يجد حرجا في الانتقال بين قوتين متطفلتين على العملية الانتاجية وخالقتين لاقتصاد موازي لنهب موارد البلاد وإفقار شعبها، معاديتين للشعب ورغبته في الحرية والانعتاق ، حيث أنهما معا قطعا الطريق على ثورة ديسمبر المجيدة بإنقلاب القصر ، وبفض اعتصام القيادة العامة ، وبفرض الوثيقة الدستورية المعيبة و شراكة الدم ، وقادا التطبيع مع دولة إسرائيل ضد رغبة الجماهير، وقبلا تنفيذ روشتة صندوق النقد الدولي ، وواصلا قتل المتظاهرين السلميين ، وانخرطا في عملية الارتزاق من حرب اليمن ، ونفذا انقلاب اكتوبر ٢٠٢١م ، وسيطرا على أكثر من ٨٠٪ من اقتصاد البلاد وأخرجاه من ميزانية الدولة ، ومنعا اصلاح المؤسسات الامنية والعسكرية والعدلية ، ومنعا تكوين المجلس التشريعي واختطفا مع القوى التسووية عملية التشريع ، واختلفا فقط حول السلطة ومن تكن له اليد العليا داخل الاتفاق الاطاري عند محاولة تحويله إلى اتفاق نهائي عبر ترتيبات أمنية تدمج المليشيا المجرمة في الجيش المختطف ، حيث اراد الأخير ابتلاع الاخيرة بشكل عاجل حتى يتمكن من السيطرة على السلطة ويكرس حماية تمكين الحركة الاسلامية المجرمة ، وأرادت المليشيا المجرمة أن تخرج على طاعة تلك الحركة وتكريس استقلاليتها لحين ابتلاع تلك الحركة ووراثة تمكينها. لذلك لا يحس القائد بغربة حين يغير وضع البندقية من كتف إلى كتف ، وينتقل من معسكر إلى آخر ، بسبب وحدة المشروع السياسي ، وابتعاد الطرفين عن هموم المواطن الذي لا يعدو ان يكون موضوع استغلال لكليهما. فهو لا يرى أي فرق في أن يقاتل من أجل الإمبراطورية الاقتصادية لقيادة المليشيا المجرمة ، أو الإمبراطورية المالية للجيش المختطف ومن خلفه الحركة الاسلامية المجرمة ، طالما أن وضعه المالي مؤمن ونصيبه من الثروة المنهوبة محفوظ ، ومكانته العسكرية لا تتأثر ، ونصيبه من السلطة مضمون. وهذا هو حال حركات محاصصة جوبا الانتهازية ايضا في إطار تحولها إلى جزء اصيل من سلطة التمكين الراهنة وانتقال قياداتها إلى منتدى صفوة التطفل.
(٣)
ومردود هذا الانسلاخ المؤلم وثمنه لم تدفعه المليشيا المجرمة فقط ، بل دفعه المواطن البسيط المغلوب على أمره ولم يكن يوما طرفا في الصراع على السلطة بين طرفي اللجنة الأمنية للانقاذ. فالواضح هو أن انسلاخ قائد الجنجويد المجرم الذي قاد عملية احتلال ولاية الجزيرة وروّع مواطنيها وارتكبت المليشيا تحت قيادته أفظع الجرائم ، واكبه دخول الجيش المختطف إلى مدينة تمبول التي ينحدر القائد المجرم من أحدى القرى القريبة منها. بعد ذلك انسحب الجيش المختطف منها ، ليتركها فريسة للهجمة المرتدة للمليشيا المجرمة ، التي اجتاحت المدينة وقراها والقرى المحيطة بمدينة رفاعة ، لترتكب جرائم حرب مروعة وتنهب المدينة التي تعتبر مركزا تجاريا مهما ، وليقوم الجيش المختطف بقصف المواطنين تحت غطاء قصفها. فالمواطن الان يعيش تحت هجمة احد طرفي الحرب عبر قواته الراجلة المتمرسة في ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية ، وقصف الطرف الاخر بالبراميل المنفجرة وغيرها ، في إفصاح جلي وبين عن طبيعة الحرب الموجهة ضده من طرفين معاديين له ، أشعلا حربا بهدف هزيمة سلميته وتصفية ثورته ومنعها من تحقيق أهدافها ، ولكن هيهات! فالمليشيا المجرمة قامت بهجوم واسع على هذه المناطق على اساس اثني وعرقي ومناطقي ، في حملة تأديبية لمن تعتبرهم أهل القائد المنسلخ وأبناء منطقته وقبيلته ، في إعلان عن مستوى وعي وتفكير قيادة هذه المليشيا المجرمة الذي مازال وعي مجتمع رعوي في ثقافته يتبنى عنف البادية ، بالرغم من انتقال هذه القيادة لمعسكر نخبة الرأسمال الطفيلي ، باعتبار ان العنف والقوة السبيلان الوحيدان للدفاع عن مصالح هذه القيادة لأي معسكر منهما انتمت. فهي لا تستطيع اتخاذ سبيل النشاط السلمي المدني وطريق الجماهير ، لأن مصالحها تتعارض تعارضا واضحا مع مصالح الجماهير. لذلك يبقى العنف هو اللغة الوحيدة التي تفهمها ، ويبقى عنف البادية وثقافة حروبها التقليدية القادمة من عصور سحيقة ، والقائمة على مفهوم الغنيمة والسبي والاستباحة ، هي الحاكمة لمسرح الاحداث.
(٤)
والسؤال الذي يفرض نفسه هو ، كيف يجد القائد نفسه منسجما مع عدوه عند الانسلاخ والانضمام اليه بسرعة لا تصدق ، بحيث ينتقل للقتال معه في الصفوف الامامية في اليوم الثاني للانسلاخ مباشرة؟ والإجابة تكمن في أن المؤسستين المتحاربتين اصلهما واحد!! فهما عملا معا ولفترة طويلة لخدمة مشروع واحد ، وتحت نفس القيادة السياسية والعسكرية. وخضعا لأوامر من نفس الجهة ، وقتلا الشعب والجماهير لمصلحتها معا ، ومارسا الارتزاق تحت نفس القيادة وبتوجيهها ، وحميا رموزها معا ، واجتهدا في سبيل تكريس سلطتها معاً ايضا. لذلك لا يجد ضباط من الجيش المختطف حرجا في الانضمام علنا للمليشيا المجرمة ويعلنوا ذلك في فيديوهات متداولة ، لأن الضباط كانوا يتسابقون قبل الحرب للانتداب إلى المليشيا ، او حتى ترك الجيش المختطف للإنضمام إليها ، للإستفادة من الامتيازات او من الارتزاق. كذلك لا يجد قائد المليشيا المجرمة حرجا في الانضمام لمعسكر الجيش المختطف ، بإعتبار أن القائد العام غير الشرعي للجيش كان قائداً للمليشيا المجرمة بحكم قانونها ، وهي ابن شرعي لللمؤسسة العسكرية كما كانت تردد قيادتها قبل الحرب الماثلة. وبما أن المهمة واحدة وهي قمع الجماهير ونهبها وإفقارها وتهديد أمنها ، لا فرق بين ان يتم ذلك تحت قيادة المليشيا المجرمة او الجيش المختطف. لذلك لا يجد القائد في اي من الطرفين الانضمام إلى الآخر. وهذا يشمل القيادات السياسية ايضا لدى الطرفين. وقد شهدنا انضمام نائب الرئيس المخلوع القيادي في الحركة الاسلامية المجرمة والكثير من كوادر الحركة ينضمون للمليشيا المجرمة يتسنمون مواقع قيادية فيها ، ولكننا لم نشهد عددا كبيرا من قيادات تلك المليشيا ينتقلون للمعسكر الاخر حتى الان ، لكن المناخ بعامة مهيأ لذلك ولن يكن الامر مدهشا ان حدث. والأمر قد يكون أكثر تعقيدا بالنسبة للجنود ذوي المواقع الاجتماعية المختلفة عن قياداتهم والمنضبطين في اطار سلسلة الأوامر العسكرية ، حيث ان انسلاخهم يتم لاسباب إثنية او مناطقية أو لغبن شخصي ومظالم خاصة ، ولكنه يستلزم توفر شروط قد لا تتوفر بسهولة. والمطلوب هو عدم الغرق في تأثير الدعاية التهويلية التي تجعل من انسلاخ قائد التحق بالمليشيا المجرمة حدثا حاسما في مسار الحرب سيقود إلى نهايتها ، مع عدم اضاعة الوقت في الجدل حوله والانصراف عن القضايا الرئيسية ، والانتباه إلى ان هذا الرحيل بين المعسكرين أمر متوقع وأثره محدود ، وهو يأتي ايضا في سياق الحفاظ على توازن الضعف ، ولن يكون أبدا في مصلحة الجماهير ، فالمنسلخ مازال في معسكر الاعداء ومستعد لقتل المناضلين الشرفاء ، ايا كان موقعه لدى الطرفين المتحاربين. لذلك يجب رفض اي عفو يناله من أي سلطة غير شرعية ، والمناداة بجلبه للعدالة والمحاسبة حين يصبح ذلك ممكناً ، وحدوث ذلك حتمي فيما نرى. وقوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله!!.
ماهو رأيك في هذا المقال ؟
Average rating 0 / 5. Total : 0
كن أول من يقيم هذا المقال
لا يفوتكم
التجديد ليس ترديد جمل رنانة بل هو تغيير حقيقي في الفكر والممارسة (3 -7)
صديق الزيلعي كثرت ، مؤخرا ، الكتابة عن التجديد والتطوير والهوية والاصالة ودولة 56 …