قصة قصيرة - 9 أغسطس 2025, 6:42

(جِن كَلَكي)

قصة : إقبال صالح بانقا

إنزوت أو انحسرت عن ذهني ذكرى سنوات طفولتي الخمسة أو السته الأولى أيام الروضة القريبة من بيتنا أو داخل الحي .
فقد انحصرت تلك السنوات في مشاهد قليلة دائمة تُخجل ، الحمد لله أنها لم تبق أو لم تحتفظ بها الذاكرة …فلو رسخت فيها لكان لي لقب مُستهجن يدل عن سلوكي الشائن في تِلك الأيام .

كانت سنوات كلها ملئ بالبكاء والعويل والدموع وأنف سائل دوما …وأنا خلف أمي مُمُسك بطرف ثوبها وقلبي مُعلق بها.. لا أحفل بأي شيء سواها لا أحفل باللعب ولا بالأطفال .
كانت أمي تستميت لِتصحيني فجراً لِتغسل وجهي وأنفي من البكاء والعويل والصراخ ، لِنذهب معا للروضة وأنا ممسك بثوبها وأبكي فقط وهي تَندب على حظها التَعيس معي .

أبكي لا أريد الذهاب إلى الروضة وأعود معها وأنا أبكي أيضا لا أريد العودة للبيت .أريد فقط أن نغشى دكان الحي لأشتري ما أريد وأعود غانما أنهنه وأنفاسي مُتلاحقة من كثرة البكاء .
كل ذلك يتم وسط صراخها والدعاء عليا وعلى يوم مولدي واحتجاجها وسَخطها أضف إلى ذلك احتجاج وسخط صاحب الدكان أيضا عليا . عطفا عليها ومؤازرة لها مما يزيد بكائي فقد كان عقلي الصغير لا يَستوعِب سبب تَدخله فيما لا يُعنية .
أعود بعدها لأنام تعبا من البكاء تغطيني أمي بثوبها الذي أحب ، ثوبها المُعطر دوما بعطرها النَفاذ ورائحة الحِنه ورائحة الأكل والخبز وكل ما أحبه فيها .
أنام بعمق ونشوة لأني ظفرت بما أرغب من دكان الحي ، لحين حضور أبي من عمله وأخي واختي من مدارسهم ..أنا أصغر إخوتي .
في تلك السنوات تشبعت بالحب والحنين والدلال و (الخَمج ) منها . الحنين كان طابعا فينا وليس مُسمى ، فهو منسوج في وجداننا مثل نسج ( العنقريب ) الذي ننام عليه والذي يُبهرني نسج النساج لحبالة حين يأتي لذلك اراقبه واراقب تَمكنه وبراعته في النسج منذ أن يبدأ حتى يَنتهي ويأخذ أجرته من أمي بعد جدل طويل معها و يذهب .
بعد نومي قرب العصر أصحو على صوت أبي يدعوني بابتسامته الهينه للقيام لتناول الغداء فأهب سعيدا ممتنا ، كانت تلك أحلى وأسعد لحظات حياتي أستمتع بهم جميعهم وبقصصهم وبحكاوي يومهم خاصة حكاوي أبي وشكواه من مديرة الإنجليزي وصَلفه وتثيرني تلك القصص عنه وتستفذني وتشتعل في نفسي مشاعر شتى …كنت أضمر الحقد على مُديره وعاهدت نفسي أنني حين أكبر سألتحق بالجيش وأحرر الوطن منهم وأرد لأبي كرامته الجريحة التي كان يتعمد مُديره الإقلال منها.
لكن ذلك الحقد لم يكن يحرمني من الاستمتاع بأكل أمي الشهي .
تلك السنوات القليلة والتي أجزم العلماء على مدار الزمان على أنها هي التي تُشكل شخصية الطفل …. شكلتني بالحنين والمفيد. .
بعدها بدأت ذاكرتي صاحية يقظة تُسجل تفاصيل الحياة وتفاعلي معها ومع المجتمع والناس والأقران .
بدأت الحياة منذ ذلك الحين تتضح معالمها وتقم الذاكرة برصد وتسجيل تفاصيلها منذ دخولي المدرسة الأولية وتركي للإمساك بطرف ثوب أمي والكف عن البكاء ..تركت ثوبها لكني امتلأت حنينا منها وشرعت في الحياة منذ سن الثامنة .
شرعت فطناً ذكياً لماح محبوب (شِفت) (شَين ) لكن ليس قبيحاً دمي يقطر خِفة وظلي أخف من دمي جَذاب كل من يراني يَبتسم أو يَضحك و يَقهقه… خاصة عندما أتحدث فحديثي كله باسم ضاحك يلتف الجميع حولي دائما وأشيع المَرح .
ينتظر أترابي خروجي من بيتنا حتى يبدوا أي شيء لعباً كان أو مرحاً أو مغامرة كنت زعيماً لكن بِصفات فريدة صفات النجم يدعونني ( بالجِن الكَلَكي اللآبس مَلكي) .
مُتفاعل مع الجميع لأبعد الحدود أساعد الجميع ولا أكف .أمسك بيد هذا وأعاون هذا واشتري لمن تَرغب منهن خبزا أو غرضاً ما، اضاحك وأمزح مع الكل .
بعد الغذا في العصر أخرج للشارع مع أقراني في الحي للعب كرة القدم وبعدها والتي تنتهي غالبا بجدل ما و خلاف على نتيجة الفوز واللعب بعدها نلتقط أنفسنا بالجلوس علي (مَصطبة ) الجَدول المُقابلة لشارع الأسفلت الرئيسي الذي يَحفل بكل شئ وتَمخر فيه النَساء والبَنات والحِسان و السيارات والدوآب بأنواعها والكلاب والقطط و فيه مواقف المواصلات العامة جميعها ويزخر بالعجائب والمفاجآت و بالعراك والجَدل والمُناوشات ومرور (الِسيرات ) وزفات العِرسان و (سِيرات) المَختونيين و (النُفس) يحملون سَعف النخيل كفآل حَسن وخير ، كعرف راسخ وأصيل في المدينة التي اجتمعت فيها أعراف الوطن جميعها وتُمثله ، تتوجه تلك الأفراد إلى البحر القريب للاغتسال فيه والتَبرك والتَطهر بماءة .
فالبحر كما يقال له عادة أو نهر النيل بهيبته وجلاله ، يلي الشارع الذي نجلس في طرفه وما كان يصاحب ذلك من مشاركات عابرة توزع فيها الحلوى والتمر ولا يخلو الشارع أيضا من جِنازة محمولة عابرة في عَجلة فالمقابر في نهاية الشارع فنركض أيضا في محاولة الإمساك برجل (العنقريب) وأخذ الأجر والثواب وشيل الفاتحة وربما البكاء والعويل خاصة لو كان المفقود لنا به صلة في الحي أو الجوار أو القُربة .
نجلس لنتسامر إلى غروب الشمس وتستمر الجلسة إلى ما بعد صلاة العشاء في نهايات الأسبوع فما يليها أيام جُمع ونسهر أيام العُطلات والأعياد .
كنت مَلك السَمر ونَجمه ….الجميع مُلتف حولي أُمازح وألقى النُكت والقَفشات وأنال الإعجاب والحَسد والغِيرة مِنهم .
كان الشارع وتلك الجَلسات مَسرحاً مُحتشداً بِالرفاق تَجد فيه السَمر و يَلفت أنظار المارة وقد يشاركون أو يتفرجون كان يحوي كل أنواع الفنون غِناء ربما شعراً أو عزفاً أو حكاوي وتمثيل كل يُقدم مَلكته بعفوية ويجد قبولها أو نقدها أو رفضها فالتَخصص شائع والمواهب عفوية ووليدة وتائقه ووثابة .
أعود إلى البيت مع غروب الشمس في أيام الدراسة وبدء الظلام مع إلحاح الأمهات على المجيء لمذاكرة الدروس قبل النوم .
فما أن آخذ حماما وأتناول العشاء وكوب الحليب وأدعي المُذاكرة أو أحاولها فما أن أمسك بأي كتاب مدرسي حتى يُباغتني النوم والنعاس اللذيذ الغريب . كان أغرب نعاس يَنتاب دِماغ أحداً على وجه الأرض مشحون بكل ما لذ وطاب في الحياة .
كنت أشرع في نوم عميق مشوق تكتنفه أحلام ورؤى وردية أشد منه عذوبة ويتمكن منى عند إحساسي بأ
إحكام أمي لثوبها حولي وإقرارها بإني نمت بصوتها العالي وسط سخطها الممزوج بالضحك عن عدم مُذاكرتي لكن كان يشفع لي لديها حُصولي على المركز الأول في كل مراحلي الدراسية ورضا الجميع عني وحبهم لي أساتذة وزملاء ورِفاق وأهل الحي وربما أهل المدينة المتلاحمة جميعهم .
فوجودي ومقدراتي و موهبتي كانوا هم من أسبابها وهم من تعرفوا عليها بحبهم لي وحثهم وتشجيعهم لي .
كانوا جمهوري الذي اكتشفني ودفع بي إلى ساحة النجاح والنجومية واشتراكي في فرق التمثيل خلال المراحل الدراسية وتشجيعي على أداء أدوار الكوميديا فقد كنت بارعا فيها بتلقائية يعينني فيها خفة ظلي فلنت الجوائز والتقدير والتشجيع وحثني الجميع على أن أنحو صوب المسرح ودراسة التمثيل الكوميدي بالتحديد وقد كان .
كرت ومرت الأعوام وأنا لصيق بأمي لا أحفل بأبي كثيراً كان يُمثل لي ويرتبط لدي بأشياء مُعينه كان يَحملها عِند عَودته من العمل . لكن عندما إشتد عودي قليلاً مات فجأة بلا عِلة
وفارقنا فإكتشفت أنني كنت أحبه حبا جما ولكن لم أقترب منه مفترضاً أنه مُقيما ولن يُبارح أبداً وأنه كان يمثل لي الأمان والاستقرار وتوفير المُتطلبات ولم أفطن يوما أن كل ذلك سيزول بَغته ، فَذهب دون أن أفصح له عن حبي له … ففقدته وفقدت بالطبع كل الأشياء التي كان يحملها و ترتبط بمجيئه وفقدت ذلك الشعور بالأمان الذي يهبط على الكون كله عند مَجيئه ناهيك عن بيتنا وقد كنت أحس بأنه شيء طبيعي عام ولن يزول.
لكن بفقده زال ..و زال ومازال الحُنق المقيم في ذاتي تجاه المُستعمر أو مُديره الإنجليزي وتَجبره عليه ما زال مقيما فيها وما زالت نفسي على العهد بأني سوف أقتص له ولكرامته وزادتني صدمة فقده إصراراً وعزماً .
وكثيرا ما كنت أعود من المدرسة لأجد أمي تطهو فاجلس بِحوارها ملتصقاً بها وأثير فيها ذكريات أبي عامداً في مُكر وأنزل دموعي وأنفعل فتثيرها دموعي فتنفعل أيضا ، كنت أستفذ فيها الدموع والألم والغضب .
فَتبعدني وتدعوني مُرغمه لأكف وسط دموعها إلى الذهاب إلى الدكان لِجلب غرضا ما لها أو للبيت وأظفر أنا بما أريد وغالبا بزجاجة (الببسي) الباردة التي أُحب في غيظ و حر أيام الصيف المُلتهبة والتي من أجلها أقوم بتلك المُراوغة فتؤبخني أمي وتدعوني (بالمَعَجن) أي المُفرط في الدلال فأبتسم وينشر الحب لها مَظلته في قلبي وجَوارحي كلها .
تولت أمي زمام الأمور والتربية والإعاشة وتخلت عن دور الشباب والجمال وكَرست عُمرها كله لنا ولي بالتحديد كآخر العنقود اليتيم المحبوب المُدلل المَوهوب .
مارست حياتي ودراستي وأيام مُراهقتي بكل ما تحمل الكلمة من عنت وتميز محاطا بالحب والحنين كانت تلك هبات من الله شكلتني وأظهرت مَواهبي .
أتممت دراستي الوسطى والثانوي وأيام مُراهقتي وسط الحي والجيران وأقراني وزملائي وأنا أحمل و مُحاط بكل ما ذَكرت لكني شببت وأنا أحمل النقيضين .
إذ كنت أهرع للوضوء في (وضاية ) المَسجد فوراً أهب وأترك ما في يدي أيا كان عند سماع الآذان . لا تفوتني صلاة في مسجد الحي ولا يَفوتني الانتظام في الصف الأول لصلاة الجماعة واشارك في الأفراح والأتراح في الحي كنت أول من يُجهز الجَنائز ويَشد خِيام العزاء ويَرفع الأكف بالفاتحة للميت أساعد في جَلب أغراض البيوت في المناسبات الأفراح والأتراح .
كنت الدينمو المُحرك للحي وأهل ثِقته ومع ذلك كنت أتقلب في عشق بنات الحي وغيرهن ومُراوغتهن في مُكر ودهاء لا أُحسد عليه و مارست حينها كل أنواع الرذائل كديدن الشباب في تلك الأحياء العفوية البسيطة مع سنوات الطيش كالخمر والدخان و( سف الصعوط) لكني متفوقاً دراسياً ومحبوباً وكان المُجتمع المَاكر يَتَغاضى عن تلك الآمور عامدا عندما يكن المرء يحمل مزايا .. وربما كانت تلك الإمر تُغفل عندما يكن المرء ذي نفع أو مُقتدرا في شئ يفيد من حوله وهو نوع من الرياء الذي تتمتع به تلك المجتمعات البسيطة .
لكن الويل كل الويل لديهم لمن مارس أحدا ما في المجتمع المُستهجن من السلوك وكان غير ذي نفع ، فهو منبوذ !!!
أهلتني موهبتي لدخول معهد التمثيل والموسيقى و المسرح وتفوقت وأثبت وجودي باشتراكي في الكثير من المسرحيات التي لآقت رواجاً ونالت الجوائز وقد أديت في احدهما دور القائد الفرنسي ( نابليون بونابرت) ببراعة فقد جَسدت فيه صَلف المَستعمر الغازي مُستدعيا مدير أبي الإنجليزي من ذاكرتي وحقدي عليه , فأشاد بها و بي الجميع الجمهور واساتذتي وتكرر عرضها حتى لُقبت باسمه وقد صار لقبا لي ينادوني به رافقني منذ تخرجت وإلى الآن .
مرت أو تسارعت سنوات وأيام المعهد والطيش والشباب حاملاً زخم كل شيء ومرت معها أحداث كثيرة عامة وخاصة بعضها من هوله يشيب له الوِلدان وبعضه يمر مرور الكِرام .
في أثناء تلك الأيام والأعوام تعرضت أختي الوحيدة لِفشل كَلوي ودنا بها من الموت وبنا أيضا . إذ لم تَستجيب للعلاج وقرر الأطباء زرع كِلية لها و سفرها للخارج.. أو.. أو وكله كنا لا نَستطيعه ولا نَقدر عليه وظَهر المُتبرعون لها بالكلية وكنت أولهم بالطبع وعندما عَجزت الإمكانيات حتى عمن تَتَلاءم كِليته معها وأستقر الأمر عندي هببت بشجاعة الأبطال وحماس الشباب وبدموع أمي لأخذ كِليتي مِني وزرعها في خَاصِرتها ..أخذ الأمر مني أياما تعافيت بعدها سريعا ونالت هي من الوان العذاب ما نالت.
ذلك الموقف زاد من حب الناس لي وارتفعت نجوميتي ونلت حب أمي مضاعفا وتقاطرت الدعوات منها إلي كالمطر في حلي وترحالي وظفرت بما لم أحلم به من تجاوب وفرص ونجاح .
رغم إني كنت و ما زلت أحمل النَقيضين أساعد كل من هب ودب خاصة لمن احتاجها أشارك كما عهدني الكل في كل أعمال الخير مواصلاً تَولى المُصلين وخِدمتهم وما زلت مواظباً على التواجد في أول صف للصلاة ومهرولاً إلى الوضوء وماءه تقطر من ذقني دائما و دائم الركوع والسجود بل علامة السُجود سوداء مستديرة تضئ جبيني .
وظَللت مبادراً على حَمل صَواني أكل الأفراح والأتراح وأكل أهل المَسغبة والجَوع ومُعاونتهم.
لاحقا ربطتني بأحدي زميلات معهد التمثيل قصة حب هوجاء يافعة في السنتين الأخيرتين من التخرج فعمدنا بعد التخرج إلى الخطبة في إلحاح رغم أن كل وأي شيء لم يكن مؤاتيا خاصة هي لظروف أهلها المُتعسرة وقُصر ذآت اليد وثُقل الحِمل على والديها وتم الزواج بمباركة الجميع من الأهل والمعارف والأصدقاء رغم ضعف الإمكانيات وبدأنا وشرعنا في حياتنا معا في أضيق وأحرج وأحلك الظروف والأيام.
شاركت أمي وأختي وأخي السكن في المنزل الضيق مع ضيق العيش وضيق ذات اليد و أثمر الزواج سريعا عن طفلين توآم وزاد تَعسر الحياة وكَبدها رغم نَجاحي في مَجالي فهو نجاح كان عائده يَسير لا يَفي بالمطلوب ..
سارت الحياة بنا بذلك العُسر رغم النَجاح في أعمالي وارتيادي لافق فيه تحقق النجاح والشُهرة لكنها لا تفي بالغرض والمطلوب كما أسلفت وكلما زآدت الشهرة زآ٠د ضيق العيش وكَثرت المُطالبات والجَدل بين الكل وزآد المَلل والشُعور بالذنب والتَقصير فبَهت الحب جراء كل ذلك وأصبح عبء تُريد التَخلص مِنه وقد كان .
فانفصلت عن زوجتي وأخذت أولادي معها فزدت تعلقاً بهم وتوتراً وضيق وشعوراً بالذنب تجاههم .
مرت أعوام توفت أختي بالقصور الكلوي رغم تبرعي لها بكليتي لكن تدهورت صحتها لآحقا توفت بعد عناء وكبد ولم يشفع لي سوى أنها أخذت كليتي معها دليلاً على حبى المُفرط لها وتَضحيتي .
توآلت الأعوام وتكاثرت وأنا بين جزع أمي على فقدها لوحيدتها وبين رعاية توأئمي وهم بعيدين عني وكثرة المناوشات والجدل مع أمهما في أمرهما وبين الشهرة والعمل والسهر والمسارح ودور العرض واللقاءات وكبد العيش في بلد قاصر أن يمنحك سبل العيش الكريم ويصد عنك حتى كرامة الإقامة فيه .
إلى أن جمعنا عملا ما مسرحي مع إحدى الزميلات وتزاملنا فيه مدة من الزمن كانت كافيه إلى أن يجمعنا حب صادق ألف بيننا وتواعدنا أن نكلله بالخير وتم الزواج بيننا وكانت الأعمال قد بدأت تأتي ببعض ثمارها فاستأجرت بيتا لنا وتركت بيتنا أو بيت أمي لها ولأخي الأكبر الذي لآزمها حتى مماتها فقد عاش معها باراً بها مستكينا قنوعا نال من حظ الحياة ما يَرغب .
أقمنا في بيتنا نكابد ونصارع سبل العيش والعمل معا اثمر زواجنا طفلة ازهرت أيامنا وأسعدتها لكنها زآدت الأعباء علينا كحال الدنيا .
مرت سنوات أخرى لم يدع فقدان أختي على أمي إلا مزيداً من الإنهاك وهي تدنو إلى كِبر العمر والهرم رغم نِضالها المُستميت في التَضحيات من أجلنا وإسعادنا .
ففقدت أمى ورغم أن الحزن و المرض قد أخذا منها ما اخذأ إلا أن ألأمر كان بالنسبة لي لا يقل مباغته عن موت أبي إذ كنت متيقنا أن موتها لن ياتي ابداً والدليل أن اشياءها بعد أن فارقت مازالت كما هي تنبئ عنها وتحمل عبقها وأكاد وأجزم أنها ستخاطبني لو استدعيتها .
رغم كل ما مر بي فاتني القول بأني لم أترك فُسقي وتَقلبي في عِشق الحِسان كما شَببت ولم يشفع لي الحب أو الزواج أو الموت وغيره واظن هذا ديدن اغلبنا لكن هناك أشياء ومُسميات تَخفي عن الكل حَقيقتنا المُخزية .
و لكن المجتمع يعلم بها ونَظهر نحن بالمَظهر الذي يُرضي المُجتمع العَجيب .
توالت السنوات كعادتها تحمل للأسف ما نَكره وتَحمل معها سوء أعمالنا واقدارنا ولم نَظفر فيها بما نرغب ومن نرغب ومن يتولى أمرنا ويقيم شأننا بل بالأسواء  دائماً رغم أنها أي الديار كانت غير عقيمة بمن يُعول عليهم من أهل الضمائر ومعرفة الحق .
وعندما طال أمد العِلل علينا والكَبد واستفحل الأمر كان القدر يُريد أو يُكيد لنا أمر الكي بالنار للإستبراء كآخر حل للعلاج لو قُدر ذلك.
فاشتعلت الحرب ودآرت رُحاها تَحصد ما تريد بلآ هوية لها سوى العبث والجُنون فأخذت تأتي بما يَخرق عادة الحروب ، بخبط عشواء لم يوجد له نظير في الحياة فأحرقت وأبادت ودَمرت وهَجرت وشَردت وتَفرق أهل العاصمة ومُدنها تفرقوا داخلياً وخارجياً بلآ أي هدف ولا خُطة فالموت لا يرحم والكل نَفذ بِنفسه وبأقربهم إليها فلآ مَجال و(الروح أولى من الصاحب ) كما يقال .
وها أنا ذا الآن خارج المدينة التي أُخليت عن بكرة أبيها كما يقال وأضحت مَهجورة مُظلمة تَسكنها القطط والكلاب والبوم والغُربان، والوطاويط في الطريق إليها مع الخَراب والدمار لو زاد أمر الهَجر .
ها أنا ذا في مدينة من مدن الأقاليم الداخلية أعجزني الفرار خارج الوطن لضيق ذآت اليد ولا معين أركن إليه . شرعت في الأقاليم أمارس عملاً هزيلاً لا أعلم عنه شيء لأكتسب وأوفر لقمة العيش لنا إذ لا مجال لأي عمل والحرب آتية على كل أخضر ويابس وتحصد في الأرواح ما استطاعت..
وأحاول ما استطعت التواجد وبعض الظهور في أماكن تدل على تفاعلي مع ما يحدث بقية البقاء على ماء الوجه والكرامة في انتظار وقف الحرب والعودة للديار .
ولا أعلم لو تثنى لنا الأمر وعدنا رغم أننا لا نملك شيء يذكر فالدار تدمرت و نُهبت وسُلبت وهي مؤجرة لا نملكها إذن هي ليست دارنا وإذا عدنا هل سنعود بذات الوجوه القديمة ؟ التي تحمل الكذب والرياء والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وتحمل الفضيلة أيضا في آن واحد ؟ أو هل سأعود بما أحمل من النقيضين في ذاتي ؟ أم سأتخلى عن أحدهما ؟ ومن فيهما سيظفر بالحمل دون الآخر؟ بعد كل هذا الهوان والابتلاء ؟؟؟؟؟. أضف إلى الضغينة الواردة إلينا جراء ما حدث !!!!!
الله أعلم !!!!!!!

8/8/2023م

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 3.5 / 5. Total : 2

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *