‫الرئيسية‬ مقالات من الوطن إلى الإمارة: “تأسيس” دابة الجنجويد لإكمال قوس الخطاب
مقالات - 11 يوليو 2025, 7:13

من الوطن إلى الإمارة: “تأسيس” دابة الجنجويد لإكمال قوس الخطاب

صلاح الزين
ليس كما الإله، الخطاب لا يوجد منفردًا، وكما الإله، ذو نزوع غريزيّ للهيمنة والسيطرة. فالتاريخ هو مجموع سيروراتِ خطاباتٍ محمولة على أكتُفٍ طبقية وسياسية، فكرية وثقافية تتنازع فيما بينها لاحتياز السُلطة والجَمال، من مَقعدٍ في برلمانٍ صغير انتهاءً بترميمِ شطرٍ في قصيدة.

والخطاب العربسلامي منذ انهيار مملكة الفونج (1501-1821)، في هبوطِهِ وصعودِهِ، لم ولن يخرج عن هذه الترسيمة التاريخية حتى هيمنته الممتدة منذ أربعة عقود. فقد أَسّسَ هذا الخطاب لمشهد ليس بغريبٍ على شجرة نَسَبِهِ التاريخية: تَمفصُل الدين والعرق وصولاً إلى النقاء الديني المُقاس بالصفاء العرقي. بكلام آخر: حَسُنَ إسلام الفرد كلما امتلأت عروقه بالدم العربي وطغت على سحنته وملامحه ما يمكن وصفه بالنسَب العربي. أصبح هذا التصور الناظم والمحايث، الخفي والمعلن أحيانًا، لاستراتيجيات هذا الخطاب فيما ينشده من تحالفات سياسية وفكرية من غير أن يعني هذا انغلاقه فيما لو اقتضت خروجه ضرورات بنيته الخطابية.

والخطاب، أيُّ خطاب، دوما يوجد جوار خطابات أخرى سابقة أو ماثلة أو لاحقة. فالخطاب بطبيعته مُتنازَع ما بين التعدد والهيمنة على المتعدد مما أَورثَ بِنيتَهُ مهارةً في التكتيكات الخطابيّة التي تسمح له بقدر من القرابة الخطابية لإنجاز مهامه. يمد يده ويغُلَّها، وبصنارته يصطاد ما يعقله، وإنْ في اختلافه، صنوًا وكتفًا لذات حمولته الخطابية والسياسية والفكرية. من عَقْل مخطوطته الخطابية يقرأ مسارات تحالفاته الاستراتيجية والآنية، يمحو ويغتال، يَستحدِث وينشئ، متسلحاً بعتاد فكري وقدرات تناسلية تسندها مصالح طبقية وسياسية. وفق منحنى هذا القوس الخطابي العربسلامي تعاطى الأخير مع حركات الهامش المسلحة وتَدبَّرَ أمر سلامة خطابه.

والخطاب العربسلامي، كأيِّ خطاب، لا يخرج من أرض له وسماء خارج مصالحه الاقتصادية والسياسية منذ تَسنُّمِهِ الحكم في 1989، وما قبل ذلك، والتي كانت، في ذات الآن، صعوده نحو حتفٍ بنيويٍّ لازمٍ له حتى لحظة سقوطه وانفجار حربه، حرب أبريل 2023، كحتمِ ضرورةٍ اقتضتها تناقضات بنية الدولة الكولونيالية وانتفاضة الديسمبريين في 2018.

بِعينِ خطابِهِ نظرَ الخطاب العربسلامي لانتفاضة الهامش المسلحة كتحدٍ وتهديدٍ لمصالحه الاقتصادية والسياسية. من خاصرته اِستَلَّ الخطاب ذراعًا عسكريًا لمحاربة حركات الهامش المسلحة. فكان ميلاد مليشيا الجنجويد كقوةٍ عسكريةٍ قابلة للإيجار. في نشوء وتطور سردية هذه الجماعة أُلبِسَت عباءةً سيمانتيكية باِسمَيْن: الجنجويد وقوات الدعم السريع، الأول ما نَطقَتْ به حكمة أهالي دار فور، بينما الثاني ما نطق به لسان الخطاب وقاموسه: الحكمة أبقى والخطاب رَكّاب سرجين !!

بالاسم الأول، الجنجويد، طفقت تلك الجماعة بإنجازِ ما هو موكولٌ لها كقوى طرفية مستحدثة تسند كتف الخطاب العربسلامي بمحاربة انتفاضة الهامش. فكان التطهير العرقي والثقافي معقودًا على الإحلال الجغرافي والزمكاني. أُبيدَ من أُبيد وهُجِّرَ مَن هُجِّر، لتغدو حواكير أهل دار فور وذاكرتها سديماً أبيضَ يطرزه ويلوِّنهُ القادمون الجدد كامتدادٍ رث لبنية ذاك الخطاب المسيطِر، الخطاب العربسلامي.

ضاقت المسافة التاريخية والمصالح الاقتصادية بين الخطاب وطَرَفِه المُستحدَث، كبندقية إيجار، مما اقتضى تمفصلًا خطابيًا بين قواهما الاجتماعية والفكرية، به أُنجزَ الانتقال الذي استدعى، ضمن ما استدعى، الانتقالَ من تسميات الجغرافية إلى تسميات التاريخ وتحولات بنية الخطاب، فكان اسم “قوات الدعم السريع” ضرورةً تَهِبُ بنية الخطاب قدرًا من الاتساق والرشاقة به يكون تجدُّد الخطاب وفُتوَتُهُ وماسحة في الوقت نفسه لإحالات وذاكرة الاسم القديم قبل التمفصل والاندغام البنيوي في بنية وهيئة الخطاب العربسلامي.

هكذا، ما يعجَزُ عنه مركز الخطاب ومتنُهُ يقوم به طَرفُهُ، الجنجويد، الذي صار أحد مستويات بنية الخطاب العربسلامي إذ الخطابُ يشتغل كبنيةٍ تتعدد مراكزُها لحفظ بنية الخطاب واتساق قولِهِ بما في ذلك أطروحة هدم السودان القديم، دولة 56، وبناء سودانٍ جديد كما تقول وثيقة “تأسيس” في تغريبتها “النيروبية”، فبراير 2025، التي تلت انشطار “تقدُّم” إلى “صمود” و”تأسيس” وعزم الأخيرة لإنشاء حكومة موازية لحكومة الأمر الواقع. بذلك ينشد الرأس الجنجويدي، كأحد مستويات بنية الخطاب العربسلامي وكشريك للرأس الفلولي في خطاب حرب أبريل، للإيهام بأنه في حرب ضد صنوه الفلولي الذي توزعت كوادره ومصالحهم بين الرأسين.

بما له من هيمنة مالية وعسكرية كان للرأس الجنجويدي، أحد رأسَيْ خطاب حرب أبريل، الريادة والسيطرة في تأسيس “تأسيس” وكوفِئَ بأن تم اختيار “الأمير” حميدتي، حديثاً، رئيساً للهيئة القيادية.

انشطرت البرتقالة، برتقالة الخطاب العربسلامي، إلى نصفين، فلولي وجنجويدي، والأخير هو أحدث محطات انحطاط الخطاب العربسلامي الصاعد نحو حتفه بصعوده درج التملك الأسري والعائلي للمشهد العسكري والسياسي الذي فيه يُنسَب ويُعرَّف أحد رأسَيْ الخطاب بالنفوذ والسلطة “الدقلوية” بوصفها نِدًا للسلطة الفلولية وليست استطالةً نحيلةً لها أو المستوى الطرفي في بنية الخطاب العربسلامي.

فكانت “تأسيس”، في تغريبتها النيروبية، مركب الأوديسة الذي نشر أشرعته لرياح إعادة صياغة وتعريف بنية خطاب حرب أبريل 2023 بوصفها حرباً بين رأسَيْ الخطاب، الجنجويدي والفلولي، من غير الخروج عن بنية الخطاب ومستوياته لاستحالةٍ بنيويةٍ لازمةٍ لذات الخطاب وعقل تحالفاته ومنظوره الاستراتيجي بأطرافه الإقليمية والدولية. فحربه حرب مستويات بنية الخطاب العربسلامي داخل بنية ذات الخطاب لا خروجًا عليها: تشتجر وتتنازع مكونات ومستويات بنية الخطاب من غير تحطيم بنيته وإنما إعادة تموقع مستويات بنية الخطاب التي لا تخل بسيرورات الخطاب وإفصاحاته.

بل لم يكن غريبًا أن يطرق باب التحالف ذاك أصابع أدب إطلاق التسميات والنعوت التي تتناسب وإعادة التموقع داخل بنية الخطاب لينال كل ذي حقٍ حقه ليحل، كما يشاع وسط أنصار الجنجويدي حميدتي اسم “الأمير” في دَرَج التسميات محل “القائد” بوصفه وأسرته مالكاً مطلقاً ومن غير منافس لمليشيا الجنجويد وهو الذي، قديماً، أَطلقَ عليه المخلوع عمر البشير اسم “حمايتي” بدل حميدتي !!!

مثل أي خطاب، الخطاب العربسلامي، خطاب حرب أبريل 2023 ، بجيناته الخطابية والسياسية، المحمولة على سقالات طبقية وفكرية، قد تفترق وتتمايز، لضرورات خطابية، لتلتقي عند منحنى قوس الخطاب لتكون شراكةً سياسيةً تعيد للخطاب تجدده وفُتُوَّته.

يظل انقسام البرتقالة لنصفين لا يُسْقِط عنها كونها برتقالة بذات الاسم والطعم والرائحة !!!

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 4

كن أول من يقيم هذا المقال