‫الرئيسية‬ مقالات عمى البصر والبصيرة : لعبة المرايا بين “صمود” و”تأسيس”
مقالات - 27 يونيو 2025, 0:05

عمى البصر والبصيرة : لعبة المرايا بين “صمود” و”تأسيس”

صلاح الزين

“العسكر للثكنات والجنجويد ينحل” شعارٌ صاغه الديسمبريون والديسمبريات. والشعار تقطيرٌ لسيرورةِ ماءِ الضرورة التاريخية وحِفظِهِ في مواعينٍ وأوانٍ تَغسل صبوات حلم الشعوب بالتغيير والاختلاف. أُجهِزَ على هذا الشعار وتم نحرُهُ قبل وبعد الحرب إذ لم تتسع رؤية سلطة حكومة الثورة، قوى الحرية والتغيير (قحت)، لقراءة ضيق العبارة فأضاعت اتساع الرؤية وضاقت بقِصَرِ العبارة فكانت الحرب، حرب أبريل 2023 جزاءً وفاقًا لعمى البصر والبصيرة.

ومن تَهِنُ بصيرتُهُ يسهل الهوان عليه: تمت مقاربة خطاب سؤال الحرب بالسؤال حول من أطلق الطلقة الأولى، الجنجويد أم الفلول لتصبح الحرب مجرد خطأ وسوء تفاهم بين طرفين يقتضي تدخل الوسطاء و”الأجاويد” لإصلاح ذات البين. ومن يتوسَّد هكذا رؤية يتغطى بملاءة اِلتباس مقاربة سؤال الحرب في النظر إليها خارج مقاربتها كبِنْيةِ خطابٍ محمولٍ بروافعَ سياسية وطبقية ليست معنية بخطأِ كِلا السؤال والرؤية. سُلِخَ خطاب الحرب، كاستطالةٍ للسياسة وتمويهاتها، وانتهت الحرب إلى حرب بين جنرالين وجيشين خارج بنية الخطاب، خطاب الحرب.

على كتفها حَمَلت (قحت) هذا العفش وناءت بحمولته وضَرَبَت في أرض الله الواسعة وجهاتها الأربع. اعتلت مركب أوديستها وأبحرَتْ في متاهاتٍ تعلو بها وتنخفض من غير خروجِ مركبها عن ذات الماء ولونه وطعمه. رسَتْ عند عدة سواحل وقارات ومدن تستبدل اسمها باِسمٍ آخرَ وما تُصيغه من نصوص ورؤى واتفاقات بأخرى فيها التالي يمحو السابق ويحل محله لحين محوٍ مؤجلٍ ولكنه لا محالةَ قادم، اِسمٌ يُبدَّلُ وجغرافية ومدنٌ تتغاير ونصوصٌ مكتوبةٌ بحبرٍ قلقٍ تعوزه فضيلة الثبات.

تُعقَدُ المؤتمرات وينفَضُّ سامِرُها، تتغير الوجوه ولون ربطات العنق ورائحة العطر، أسماءٌ تحلُّ مكانَ أسماءٍ أخرى من غير تبديل المهام، وتبقى المرآة ذات المرآة، الرؤية ذاتها التي ترى إلى خطاب حرب أبريل كحربٍ بين “جنجويد” و”فلول” لا حربًا بخطابٍ من رأسَيْن فوق كتفَيْ إلهٍ واحد، الإله “جانيوس”.

هكذا اعتَلَت قحت مركبها مبحرة بعيدًا عن شعار الديسمبريين “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل” لتصيبها اللعنة أينما حلت وصولاً إلى توَزُّعِها الأخير بين “صمود” و”تأسيس” في فبراير هذا العام 2025.

ما بين يناير 2024، اتفاق (تقدُّم) وحميدتي في أديس أبابا وفبراير 2025، إعلان إنشاء “تأسيس” في نيروبي كان نزهةً صمَتَ فيها “الصموديون” ليعلو ويرتفع صوت “التأسيسيين” من غير أنْ يَخرج كلاهما من فخاخ الروية لخطاب حرب أبريل 2023 كحربٍ بين رأسَيْ الإله “جانيوس”، الرأس “الجنجويدي” وصِنوِهِ “الفلولي”.

إنه الخطاب، خطاب حرب أبريل الذي يمد ويوسّع بِنْيتَهُ وجنباتَهُ ليُسَكِّن ما يبدو اختلافًا في الرؤية، وهو ليس بذلك. قد تتحايل مستويات بنية الخطاب للخروج من بنية ذات الخطاب بغفلةٍ رَضعَتَها من ثديِ ذاتِ الخطاب: فقط يبقى الحليب ذاته وإنْ فُقِدَتْ شهية رضاعة الثدي لاعتلالٍ فيه!!!

تعدَّدَت ارتحالات وتحورات قوى الحرية والتغيير (قحت) الزمكانية والنَصِّيَّة، هياكلها وقاداتها والناطقين باِسمها، فوق ذات القارب من غير تبديل ما يبحر فوقه من ماء ومراسٍ ترى إلى الحرب خارج ما نادى به هتاف الديسمبريون: العسكر للثكنات والجنجويد ينحل، إلى حربٍ بين فلول وجنجويد.

هكذا، وبعد إبحارٍ ملحميٍّ مديد، رسى مركب أوديسة (قحت)، في متحوِّر اسمها الأخير (تقدُّم)، على شاطئ انشطارها الأخير وألقت مرساتها على شاطئ رسوها معقودة بحبلَيْن يعلنان ميلادَ رأسَيْن أحدهما باسم “صمود” بينما الآخر باِسم “تأسيس” ليكون لقاء الرأس “الصمودي” بِصِنوِهِ “التأسيسي” بعد فِراقٍ لم يفسد للود قضية!!

فالماء ذات الماء والشراع ذاته والبوصلة، وإنْ تبدَّلَ المركب، فكلاهما موصولان بحبلِ ذاتِ المشيمة التي ترى إلى حرب أبريل، لا كما رآها الديسمبريون، كحربٍ بين جنجويد وفلول.

ما يميِّز “تأسيس” عن توأمها “صمود” أنّ الأولى كانت بجرأةِ استعلانِ ما صمتَتْ عنه الأخيرة ووارَبَتْهُ منذ تأسيسها: الإعلان والقول الصريح باصطفافها إلى جانب رأس “جانيوس” الجنجويدي مقابل رأسه الفلولي رغم تأكيدها على القول إنّ الاختلاف بينهما هو اختلافٌ فقط في الوسائل. بقولٍ آخر، أعطت للصمتِ لسانًا وللنوايا شفاهًا بها تقول قولها وما تود أن تقول: حرب الخامس عشر من أبريل 2023 حربٌ طرفاها فلول وجنجويد لا حربًا يخوضها كلاهما ضد المشروع الديسمبري المنصوص في “الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب” والذي ترجَّلَ، حاليًا، من بين دفتَيْ “إنجيلِهِ” ليُصار إلى تكايا تسعف ضحايا الحرب وتُقرِن القولَ بالفعلِ والممارسة. بينما تبقى الممارسة على الضفة الأخرى، ضفة (الحرية والتغيير)، المنقوعة في خطلِ رؤيتِها لحرب أبريل، ممارسةً تقوم فيها الكتابةُ الحرة من كل قيدٍ مقامَ الرؤية السياسية والتي فيها تتحول السياسة إلى نَصٍّ وتمرينٍ على الكتابة بلغةٍ سياسية.

وهكذا عندما تختل الرؤية المنهجية والمشخَّصة تتقدم الكتابة، كرؤية سياسية، وتنحطّ الممارسة السياسية إلى مجرّد ممارسة نصية، كتابية، اللاحِقُ فيها يمحي سابقَهُ والذي، بدوره، يمحوهُ القادم والتالي له.

بإفصاحِها عن اصطفافها إلى جانب الرأس الجنجويدي لحرب أبريل، أردفَتْ “تأسيس”، المولودةُ من الرحم الجنجويدي، مبنىً ومعنىً، أقول أردفَتْ على سرج دابتها الحركة الشعبية لتحرير السودان/شمال بتوقيعها على وثيقة “تأسيس” في نيروبي، فبراير 2025، مؤذِنةً بانطلاق ما اسميته في كتابات أخرى منشورة بـ”التغريبة النيروبية” والتي حل فيها اسم “الرفيق” محل اسم “الجنجويد” ليصبح كِلا التاريخ والمعنى لا تاريخَ لهما ولا معنىً !!

ويبقى السؤال جَرَسًا معلقًا فوق عنق خطاب الحركة الشعبية/شمال، خطاب السودان الجديد،: كيف للجنجويدي، ذو الإسناد والتمويل العسكري والمادي الخارجي، أن يسمو ويكون رفيقًا وينحطّ الرفيق إلى جنجويدٍ ببندقية للإيجار مقذوفة من رحم توأمِهِ الفلولي، ميلادًا وتأسيسًا ؟؟!! بل كيف لأطروحة السودان الجديد أن تتنزَّل من سماء التاريخ وتحط على أكتاف مليشيا مملوكة لأسرة مَلَكية خاصة ومُطلَقة استوجبت في أدبياتهم، حديثًا، إطلاق اسم “الأمير” على مالكها؟؟!! إنه الأمير نفسه والبندقية ذاتها التي استؤجرت، منذ ما يقارب ربع قرن من الزمان، لمحاربة حركات الهامش ووأدِ طموحِها للكرامة وكريم العيش.

حربٌ وتنكيلٌ وتهجيرٌ وإحلالٌ تشهد عليها معسكرات “زمزم” و”الشواك” و”كلمة” التي تأوي بداخلها ما يقارب المليونَيْ نازح من ضحايا انتهاكات الجنجويد منذ ما يزيد عن عِقدين من الزمان حتى نشأ جيلٌ جديد داخل تلك المعسكرات مبتورةٌ صِلَتُهُ بثقافة الحواكير ونجوع الرعاة ونمط العيش الدارفوري.

بانحطاط المنهج الرائي لمقاربة سؤال خطاب الحرب، حرب أبريل 2023، تنحطّ الرؤية لترى إلى الحرب كحربٍ بين رأسَيْ “جانيوس” الفلولي والجنجويدي لا حربَ جانيوس برأسَيْهِ لمحو حلم الديسمبريين.

ويتسع انحطاط الرؤية تلك لترى “صمود” و”تأسيس” نفسيهما على طَرَفَيْ اختلاف في المنهج والرؤية تجاه مقاربة خطاب حرب أبريل وهُما منقوعان في ماءِ بِنْيةِ ذات الخطاب وتأسيساته المعرفية وجهازه المفاهيمي وروافعه الخطابية ومن ثم يطمئنان إلى اختلاف يتوهمانه خلافًا في حقل المنهج والممارسة. وهكذا كلٌ يلتف بيقينِهِ ويمكث جوار الآخر.
انقسام البرتقالة لنصفين لا يُسقِط عنها كونها برتقالة بذات الاسم والطعم والرائحة !!!

على هدى هذا العبث، تُرى هل للإله “جانيوس”، برأسَيْهِ الجنجويدي والفلولي، توأم أو شقيق آخر ليسند كتفه الذي يتهاوى تحت ثِقل رأسَيْن آخَرَيْن: “صمود” و”تأسيس” ليهتفا كما هتف الديسمبريون والديسمبريات:
العسكر للثكنات والجنجويد ينحل، ومن ثم يكون انفكاك التاريخ من الأسطورة حتى يكون للمنهج عين التاريخ وعقله؟؟

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 4.8 / 5. Total : 4

كن أول من يقيم هذا المقال

4 تعليقات

  1. برشاقة فضيت لي حالة الاشتباك و الإشتابه التي لازمتني منذ ان استشكل علي موقف عبدالعزير الحلو، لم يستسيغ لساني مذاقه هذا الحلو كموقف رديف للجنجويد ،لي اصدقاء معه خجلت ان اسألهم ف احبطهم، ف صرخت : تباً للقادة الدُمى، الذي يفعلون عكس ما يقولون ف يربِكون المشهد.

  2. تسلم يا عزيزي الشفيف د. صلاح الزين صاحب الكلام الزين .

    الحلو من مردوف في سرج الجنجويدي أحمد هرون إلى مردوف في سرج الجنجويدي حميدتي … صمود و تأسيس وجهان لعملة سياسية رديئة واحدة.

    1. سلام العزيز صلاح قرأت المقال كالعادة كتابتك و لغتك المتفردة و طربت هذا من حيث الشكل إما المضمون فاجدني قد ابتعد عن تحليل انثربولجيا نحريرا مثلك لعمق الأزمة التي تطورت عواملها خلال التاريخ لتنتج لنا هذه الحرب و غيرها من الحروب و الباقي لا يعدو محاولة مستميته لتعليق جرس الحرب في عنق احدهم او بعضهم.

  3. سلام العزيز صلاح قرأت المقال كالعادة كتابتك و لغتك المتفردة و طربت هذا من حيث الشكل إما المضمون فاجدني قد ابتعد عن تحليل انثربولجيا نحريرا مثلك لعمق الأزمة التي تطورت عواملها خلال التاريخ لتنتج لنا هذه الحرب و غيرها من الحروب و الباقي لا يعدو محاولة مستميته لتعليق جرس الحرب في عنق احدهم او بعضهم.

‫التعليقات مغلقة.‬