
الحرب والحكاية: من يكتبها؟ من يرويها؟… في الاقتصاد السياسي للمعني لحرب إسرائيل وإيران
صلاح الزين
من كان منكم بلا جغرافية فليَقُل، ومَن كان منكم بلا حكاية فليتقدم إلى الأمام.
الحكاية دائماً يحكيها الأقوياء: نصاً وشخوصًا، دينًا وشعارًا. والحكاية يعاد حكيها عندما يَمَلُّها السمّار ويشيخ جمالها. يعاد حكيها حتى لا ينفَضّ من حولها السامعون ويذهبوا لما يعنيهم من شؤون فتموت الحكاية.
لا حياة بدون حكاية وحكّائين، فالأخيرة بذرةُ التاريخ التي تُنبِتُ حكايا يُكذِّبها التاريخ ويحكي حكايته التي هي هي حكاية العباد في سعيهم للعيش واستيلاد الحلم.
وللحكاية رُواتُها المدبوغة عقولهم وسمعهم بصمغ الحكاية. فهي تُدلّي رجليها من السماء لتتلقفها الرصاصة والصياد بما يسد ظمأها وقليل من الزاد.
الرحلة طويلة ومنهِكة.
الحكاية بِنْتُ الجغرافيا عندما الأخيرة مُعرَّفة بالأنواء والجبال والسهول، مجرد كائنات هناك، هناك بلا معنىً، فتأتي الحكاية لتُرشِد الجغرافيا لمعنىً فيها لا تدركه: المورد البشري والطبيعي والأساطير. الحكاية تعرف الجغرافيا للبشري فيها. ترحل بها من سديم الهيولي البلا معنى إلى معنىً يستوجب الإفصاح والفعل: تؤنسنها لتحكي حكايات الشعوب والمعاش لا حوار الغيم والريح.
إنها حربُ الحكاية والمعنى: الأولى تحكي والثاني يُرشِد إلى ما يجب أن يكونَ هناك، هناك بهيئة وقوام وأَقدام حتى يكون للمعنى تاريخ وللتاريخ معنىً يجفِّف الحكاية وطرائق الحكي: شهرزاد تستر عُريَّ ليلِ شهريارها بما يليق به من لبوس واحتشام حتى لا يفاجئُه الصباح ويخرج من ليل الحكاية وضجرها إلى تاريخ الحكاية وصلابة عُودِها: من منكم بلا خطيئة فليَقُل، ومن منكم بلا حكاية أيضًا فليَقُل ما لم يقله شهريار وهو يرى ينبوع حكايا شهرزاد تتلِفُهُ الرمالُ الزاحفة ودنو الصباح لتروح شهرزاده وأُنسُها شمار في مرقة !!! وتَعدَمُ البشرية قصةَ عشقِ الحكاية للجغرافيا.
رأس المال، مادياً كان أو رمزياً، موبوءٌ بداء الشبق، الشبق للاحتياز والسيطرة. وبشبَقِهِ ذاك يردِفُ الحكاية في سرج دابته التي تَعلِفُ نفسها بالجغرافية، المكان والناس وما فوق الأرض وتحتها. عشبة جلجامش التي تطعم داءه، والذي إنْ عَدِمَهُ، يكون موته وفناؤه وفناء الحكاية والرواة عندما يروي التاريخ الحكاية لا الرواة بذاكرتهم الزلقة والحدباء.
إسرائيل قَدَمُ الرأسمال التي تخطو فوق أرضٍ ليست بأرضها، فالرأسمال لا أرض له ولا وطن إذ كل الأوطان أرضه. بينما إيران قصة حكاية حافية تبحث عن نعال وقَدَمٍ لتكمل الحكاية بلسان التاريخ لا الرواة الغامضون. وهكذا عَثرَ القَدَمُ على نِعالِه، فرحة التقاء الأول بالآخر، ليكون الرأسمال أسطورةً ذات معنىً تسعى بين الناس لا إلاهًا يجلس على قمة الأولمب سعيدًا بعرشِ ربوبيتِهِ وابتهالات المصلين الأتقياء من عباده.
إسرائيل كانت حكايةً تَعدَّدَ رُواتُها كما يليق بكل قصة تُحكى والحرب كانت أحد الرواة.
بقدَمِهِ الإسرائيلية، ضمن أقدام أخرى، وتحورات تُخفي شبَقَهُ ونزوعَهُ الاختياري والتوسُّعي خطا الرأسمال، ومنذ زمنٍ غابرٍ فوق جغرافيّات عديدة آخرها خطوه في السابع من أكتوبر 2023 فوق غزة وما يليها من جوار، لبنان وسوريا، لتُخَلِّف نِعالُهُ ما تركته خلف غبارِ نِعالِهِ ذاك حكاية يستعصَى على الرواة الصيارفة روايتُها وإنما يرويها أطفال غزة المنزوعين من مشيماتِ أرحامِ أمهاتٍ مُعلّقةٍ على حبالٍ من حياةٍ وحلم.
إنها حكاية حرب تحكيها قصة خراب غزة ومحوها من ذاكرة الغزاويين والله وملائكته. حكاية ناقصة يكملها عجزُ يدِ الغزّاوي الممدودة نحو شاحنات الطحين والخبز .
لا يهم متى وكيف بدأت حرب إسرائيل وإيران، فقد كانت الحرب خاطرًا يتسوَّرُ سور بدايةٍ ما لتبدأ. فالحكاية لا تحتاج إلى تاريخ ميلادٍ وشهود، ليست معنيةً بذلك في كثير أو قليل، إذ لا أحد غير السارية والشراع يمكن أن يُخبِر بتاريخ ميلاد هبة ريح.
بحنكة صياد ماهر ودُوريٍّ بألف روح وحياة، تأخذنا الحرب إلى سُرّتها فلا نرى نَسبًا لها إلا ما تريه إيّانا فتكون المرآة والناظر إلى جوفها خيبة فاتها شروق التعرُّف والاعتراف. مثلها مثل تعدُّد رواة الحكاية، الحرب لا تعريفٌ لها مِن شِدّة حيائها!! كشمس منتصف قائظة النهار يعوزها الحياء وكبرياء الخفر.
حرب إسرائيل وإيران حربٌ تمكث جوار حروبات أخرى تترقب صفارة رأس المال لتطلق ساقيها فوق الخراب والعدم كما حكاية جاثية جوار حكايات أُخر يرويها رواة بألسن شتَّى. فالحرب آفتها الرواة، رواتها ومَن يطفئ النور لتنام الحكاية بعين واحدة بينما الأخرى ترعى قطعان الأمل. إذ كما للحكاية رُواتُها، للحربِ رواةٌ آخرون. فالحرب، كيفما تبدّت، طفولة الغريزة التي لا تشيخ ولا يوهن عَظمُها. لذلك، كما الريح تنثر بذورها، تتناسل وإنْ غضّت الطرف لحين. العَجَلةُ ليست من صفاتها حتى لا يكتب لها الفناء. رحلتها بين المحتمَل والمُحقَّق هي هي رحلة المرتجى نحو تأجيله.
وليس كما يدَّعي طرفا الحرب، الحرب لا تنزل من السماء إذ لا سماء لها كما الغيم والرحمة. الحرب تقيم في الجلوس ولا تترجل من علٍ. هي دومًا هناك رهن إشارة شهية الرأسمال ونزوعِهِ، هناك كخاطرة أو عطسة تتخايل. تُخفي نفسها في مرايا التمويه والمباغتة من غير أن تكسر المرآة لتبدو كحتم الضرورة لتكون، فكانت هناك لتروي حكاية طفل في غزة أضاع الغزاةُ مرقدَهُ والحليب.
حبل الحرب المشدود بين إسرائيل وإيران يحكي حكاية التقاء قَدَمِ الرأسمال بنِعالِ الحكاية، لتفنى الأسطورة ويموت الرواة ليحكي التاريخ ما غَفلَت عنه الحكاية ورُواتها.
لا تَعْدَمُ الأرضُ من يشدّ الرحال لسموات تلك الحرب لتكبر الحكاية وتتعدد ألسنة الرواة ليحكوا لأطفال غزة حكاية نضوب الحليب في ثدي الأمهات وخجلِ الحياة من معنىً لحياتها.