
في ماذا تؤسِّس “تأسيس”؟؟: في تأبيد ربوبية الإله “جانيوس” برأسٌيْهِ الجنجويدي والفلولي*
صلاح الزين
الخطاب، كبنية، أيًّا كان نوعه، يُولٌد من رحم خطاب سائد أو مسيطر، جوار خطابات أخرى تساكنه أو تناصبه العداء، لاستحالة وجوده منفرداً ومتفرداً. فالسيرورات التاريخية لا تحتمل النقاء ووحدانية اللون، بما في ذلك حتى الأديان والرسل والأنبياء وما تجود به السماوات. وتتساوى في ذلك الديانات النازلة من السماء أو تلك الصاعدة نحوها.
الخطاب بطبيعته تجميعي وإقصائي وبتلك الطبيعة الموشوريه فهو يتوفر على آليات ترفت وترفد، تتعدد صناراته، صنارة تصطاد لتبني وتعضد وأخرى تمحو ما يجاوره من خطابات أخرى. وإنْ عَدِمَ فَلَهُ من مهاراتٍ بنيوية ترفده بأن يستحدث ويستَلّ من مستويات بِنيَتهِ ما يعينه على البقاء وتبديل قَدَمه ونعاله بقدَمٍ ونعال أخرى تعينه على الخطو في درج صعوده نحو ما هو منذورٌ له.
فالخطاب لا يموت، ليس من صفاته الفناء والاندثار، يتناسل ويتحور، يُبدِّل لبوسه وزيَهُ من غير أن يبدل دِربة نسجه ونساجه، ذات الخيوط والإبر وبراعة الأصابع المصنِْعة. من ضلعه يستل ضلعاً آخر ليحل محل ضلعٍ علاه الوهن والتقادم.
فمستويات بنية الخطاب قارئٌ فطنٌ تغالب ما للتاريخ من مكر ومخاتلة إذ لا سيرورة للتاريخ خارج الحوامل الاجتماعية والطبقيّة المسنودة بما تبذله ذات الحوامل من بناءات فكرية وثقافية وسياسية ترشد التاريخ وسيروراته لما يجب أن يكون عليه السير والارتحال.
من تلك الاشتغالات الخطابية اللازمة لبنية الخطاب العربسلامي اُستُحدِثت قوات مليشيا الجنجويد واستُلَّت من ضلعه رافعةٌ طرفية بعقد إيجار تمد الخطاب بأقدام بديلة لِما ضعف ووهن من أقدامه، نسغٌ يحل محل ما جف ونضب. حُرِّرت شهادة ميلاد تلك المليشيا قبل حوالي ربع قرن آنَ بدأت حركات الهامش المسلحة تُصعِّد حروباتها ضد ما تعانيه أقاليمها من تهميش وإقصاء. فكان استحداث الجنجويد ضرورةً دفاعية لمحاربة تلك الحركات لا ضرورة تاريخيّة لازمة له. وككل مُستحدَث ومُستولَد لا يمكنها الارتقاء لمصاف تبني مطلوبات الهامش في ما يعيد إليه الحق في العيش الكريم من تنمية وصحة وتعليم كما تصدح حالياً. إذ كيف لبندقية اُستؤجرت أن تحارب من استأجرَها لحربهِ ضد من يقاتل لنيل الحق في الحياة وكبرياء العيش!!
والخطاب العربسلامي لا يشذ عن طبيعة الخطاب، أيًّا كان، في أن يمدّ لأطرافه أسباب ما يعينه لإنجاز ما أُوكِلَ إليه من مهام. تصادت وتساوقت الطبيعة الطفيليّة لبنية دولة 1989، كلازمةٍ بنيوية لِبِنيَتِها، مع ما أنجبته من أطراف ومستويات لبنية خطابها: ينحط الخطاب وسلطته فيتصادى معه ما أنجبه من أطراف ومستويات تُرجِع ترجيعُهُ ليكون الصدى باتساقٍ يميّز الخطاب ويشير إليه، اتساق التفاهة والانحطاط.
فقد شَرَعَ خطابُ دولة 1989 منذ فجر ميلاده في تأسيس مشروع اقتصادي بحمولات وتمفصلات عرقية ودينية سيراً في درب صعود ذات الخطاب منذ ما قبل الاستقلال ونهوض سلطة الدولة الكولونيالية فيما هو معلوم من التاريخ السياسي لدولة ما بعد الاستقلال والتي كان انقلاب 1989 يشي بصعود الخطاب العربسلامي نحو حتفٍ بنيويٍّ لازمٍ له.
فقد تميزت أعوام سلطته بالهبات الشعبية المناهضة وتناسلت الحروب، التي ما كَفَّت عن التوالد منذ ما قبل الاستقلال، و تفاقمت في غرب البلاد وجنوبها وصولاً إلى إضعافه، من غير تفكيكه، على يد الديسمبريين وما تلى ذلك من نظام انتقالي عجز عن تفكيك أجهزة الدولة السابقة وسقالاتها الطبقية والسياسية والفكرية.
تلازم انحدار ذاك الخطاب ونهوضه، لضرورات بنيوية لا تنفصل عن بنية الخطاب ومصائره، أنْ طفقَ الخطاب وهو يغذّ السير نحو انحداره في إشراك ما استنبته من اطراف في سلطة الدولة السياسية وما تملكه من موارد اقتصادية طبيعية وعسكرية. فطبيعة الخطاب من طبيعة السلطة تضييقاً وتوسيعاً حتى لا تنفجر بنيته وتتلاشي سلطته. فكان أن أصبحت مليشيا الجنجويد، ضمن مليشيات أخرى، الأوفر حظاً في امتلاك سلطةً اقتصادية ( مناجم ذهب و عقارات و ارصدة مالية مودعة في بنوك خارجية و محلية ) وعسكريّة موازية لسلطة الدولة الحاكمة.
استطراداً انفجرت حرب أبريل 2023 كحتم ضرورة لإيقاف ما قال به الديسمبريون حول ضرورة مساءلة وتفكيك بنية السلطة القائمة وممتدة منذ ميلاد الدولة الكولونيالية. وهكذا وَلدَ خطاب حرب أبريل 2023 فيما اسميته في كتابات عديدة سابقة بالإله “جانيوس” ذو الرأسَيْن “فلولي” و”جنجويدي” كتوأمين سياميين لا يوجد أحدهما بدون الآخر معقودين على ذاتِ حبلِ المشيمة ويرضعان من ذات الثدي ويهدهدهما ذات الحضن ويتوسدان ذات الوسادة.
السيولة الخطابية من صفات الخطاب أيًّا كان. وكما الإسفنجة، الخطابُ يوسع بنيته وسعة متنه ليمتص عند الاقتضاء ويضيقها عند الضرورة ليبصق ما امتصه. فله من المهارات والاستراتيجيات ما يُخضِع به الضرورة التاريخية لضروراته وانشغالاته البنيوية. فقد يتأتى لأحد أطراف الخطاب أو مستوً من مستويات بنيته أن تخرج عن بنية الخطاب وسلطته لتعود إليه بما يعيد إنتاج ذات الخطاب وتأبيده ورفده بما عجز عن إنجازه لبرهة قد تطول أو تقصر. وله من صفات المرايا صِدقُها والفصاحة. وليس كما الفلّاح الذي يبذر ذات البذرة ويُعمِل ذات معاول الفلاحة ويرجو حصاداً مغايراً لبوار ما حصده سابقاً.
للخطاب قرون استشعار وبوصلة ريح ترشده إلى السِرِّي في بناء ما يلزمه من تحالفات سياسية وعسكرية وحتى مناطقية وجهوية من غير أن يفلت من يده رسن القيادة ودرب المسير. يَردف في سرج دابته وينردف في سروجِ دوابٍ أخرى وفق ما يقتضيه منطق السيرورة الخطابية، إذ الخطاب أبوابه مشرعة ومواربة في الآن ذاته.
بهذا المنطق الخطابي ومقتضياته البنيوية كان شروع رأس “جانيوس” الجنجويدي في استراتيجية بناء تحالف “تأسيس” وترجُّلُهُ من مركب “تقدم” التي انمسخت لما أسمته “صمود” كأحد تحورات “قحت” وتناسلاتها في ارتحالاتها النصية والجغرافية، مدناً ومواثيقاً، بإمضاءات متغايرة تَرى إلى خطاب حرب أبريل 2023 كحربٍ بين رأسَيْ الإله “جانيوس” الفلولي والجنجويدي!! فكان أنْ أفضى هذا العجز في مقاربة خطاب الحرب أنْ تعددت التناسلات والهيكليات البنائية لـ”قحت” وما تبع ذلك من تعدد في الأسماء والمسميات من غير أن تخرج جميعها عن شجرة نَسَب النظر للحرب كحرب بين الفلول والجنجويد بما في ذلك حتى المتحور الأخير: “تأسيس” و”صمود”!! عصيةٌ تلك المرآةُ على الكسر والتهشيم.
هكذا شرع رأس الإله “جانيوس” الجنجويدي في تأسيس “تأسيس” كتغريبة “نيروبية” تضم أطرافاً أخرى له فيها الريادة والسيادة بما تَوفَرَ له من موارد مالية وجيوش وعتاد عسكري وكفيل إقليمي يمثل إمبريالية طرفية بدورها معقودة على حبالِ إمبرياليةِ رأس المال المعولَم، يزوِّده بكل أسباب القوة ويستأجره بندقيةً لتفتيت البلاد حتى يسهل نهب ثرواتها ومواردها.
وهنا بالضبط يلتقي رأسا الإله “جانيوس” الفلولي والجنجويدي وليكون الأخير آخر تمظهرات الخطاب العربسلامي في مقاومة فنائه واندثاره بإنباتِ جناحين يطير بهما محمولاً على جسد طائر الجنجويد الذي ينبعث من رماده ليهِب الرأس الآخر، الفلولي، قُبلة الحياة وليستوي “جانيوس” على عرشه منتصراً وشاكراً.
قوات مليشيا تدين بالولاء لأسرة (آل دقلو) والمُنبَت القبلي بسجِلٍ على امتداد ربع قرن من التقتيل والنهب والاغتصاب والترويع مصحوباً بإحلالٍ ديمغرافيٍّ أودع الملايين من سكان دار فور، والخرطوم وولاية الجزيرة لاحقاً، وربوعها معسكرات النازحين في الشواك وزمزم حتى نشأ جيل بكامله منبت المرجعية الثقافية والاجتماعية. تُرى تحالفٌ قيادتُهُ بهذا التاريخ والدم، ولا زالت حتى عقب إعلانِ ميثاقِها، يمكن أن يَخضَع لمحاسبةٍ وإجراءاتِ عدالةٍ انتقالية وتاريخية وهو صاحب الكعب الأعلى فيما يأتي من حكومة تواضع على تسميتها حكومة سلام؟!
بل قد راج مؤخراً في الوسائط الرقميّة استبدال اسم حميدتي بـ”الأمير” مُعرَّفاً بالألف واللام وإغفال ما أسماه والداهُ به!!!!
لا أحد ينكر احتواء بعض ما تضمنه ميثاق “تأسيس” من نصوصٍ تكفل الحريات وما تواضعت عليه البشرية من حقوق إنسانية منصوصٍ عليها في المواثيق الدولية. لكن هل يمكن بوسع خيال روائي بقامة غارسيا ماركيز أن يتخيل انصياع “الأمير”، بكل ما يملكه من سطوة وهيمنة حالياً وفي مستقبل “حكومة السلام”، لما خطته أنامل، بمقدوره تهشيمها، لتطاله المحاسبة وما أوصت به وثيقة “تأسيس”؟!
————————-
*يُفضَّل قراءة هذا المقال مقروناً بالاطلاع على مقالات منشورة سابقاً في صحيفة (مداميك)