
مؤتمر لندن وحِيَل الخطاب.. غُيِّبَ رأسا حرب أبريل “الفلولي” و”الجنجويدي” وحضرت “صمود” ليحضر خطاب الحرب كاملاً غير منقوص
صلاح الزين
قلنا ونوَّهنا في أكثر من مقال ومقاربة إنْ ليس لتبديل الجغرافيات والأمكنة والسواحل أية ارتدادات على حمولة الخطاب، خطاب الحرب، وتغيير بِنْيته فيما يقول وينشد ويأتلف حتى في اختلافه. فاختلافه في الممارسة والقول والتنصيص هُوَ هُوَ إحدى أدواته في محاربة الخلاف الذي به يكون الاختلافُ هو الوجه الآخر لائتلافه وتناسق قوله: كأنْ يحضر وفد الجنجويد في جنيف ويغيب عن ذات القاعة وفد الفلول!! فحضور الأول لا ينفي غياب الآخر ومن ثم ضرورة إعادة تعريف مفردتَيْ الحضور والغياب كَدالتَيْن لا ينفيان بعضهما البعض: غيابٌ يحضر وحضورٌ يغيب (صحيفة مداميك)..
اللقاء الذي دعت له المملكة المتحدة في الخامس عشر من أبريل 2025 تميَّزَ عن كل اللقاءات السابقة، التي اكتظ بها مركب خطاب حرب أبريل 2023 في أوديستِهِ المعلومة، أنه رسى عند الشواطيء الإنجليزية وهو يرفلُ في ثوبٍ مغايرٍ لما كان يرتديه سابقاً. ثوبٌ تغايرت خيوطُهُ ولونُها من غير تَبَدُّل يدِ النسّاج.
فقد أطلَّ خطاب الحرب على اللقاء اللندني بعد أن انفلقت برتقالته إلى نصفين وتوزَّعَ سامر قحت إلى “صمود” و”تأسيس/قمم” من غير أن تتغاير السردية في النظر إلى العقل الذي يتوسَّده خطاب حرب أبريل والذي يَرى إلى الحرب كحرب بين “الجنجويد” و”الفلول”.
بل إن ما يميز زيه الجديد أنه يخطو بِنَعْلَي خطابٍ تعددت نعاله وتغايرت مواضع خطوه إنْ كان في تحالفاته الخارجية، الإقليمية والدولية، أو الداخلية والمحلية. والتي فيها يعلو كعب الأولى على الثانية لما بينهما من تعالقات بنيوية هي هي مشيمة وثدي خطاب حرب أبريل.
وأتى هذا اللقاء اللندني تالياً لما أسميته في كتابة سابقة بـ”التغريبة النيروبية” والتي أنجبَ فيها الشقُّ المنقسم من “تقدُّم”، “قمم”، ما أسماه بـ”تأسيس” والتي دعت إلى تأسيس حكومة موازية سيُعلَن عنها بعد حين، حينٌ مُعلَّقٌ على أستار كعبةٍ إقليمية ودولية.
في عدة كتابات سابقة منشورة في صحيفة (مداميك) قلنا إن خطاب حرب أبريل 2023 “الجانوسي” ذو الرأسَيْن “جنجويدي” و”فلولي”، مثله مثل أي خطاب آخر ، يمتلك من المهارات الخطابيّة والتاكتيكية ما يهبه القدرة على التجلي والوضوح، في ذات الآن، حسب ما تستدعي الضرورة الخطابيّة لاشتغالات الخطاب وسيرورته. وقد تجلت تلك المهارة عبر كل تنقلات خطاب الحرب إنْ في جغرافيَتِهِ أو نصوصِهِ: أديس أبابا، القاهرة، جنيف الخ في موازاة قحت، “الإطاري”، تقدُّم، صمود، قمم/تأسيس.
ترافقَ الانتقال في المكان بتبديلاتٍ نَصيّة في بنية الخطاب لاستيعاب الطارئ على بنية خطاب الحرب. ما كان غياب “الفلول” وحضور “الجنجويد” في مؤتمر جنيف، مثلاً، يخصم من حضورِ كاملِ خطاب الحرب في ذاك المؤتمر لطبيعة الخطاب “الجانوسي” ذو الرأسين الذي فيه غياب أحد الرأسين وحضور الآخر هو هو شكلٌ من أشكال حضور الغياب: يغيب ثدي ويحضر الآخر والحليب ذات الحليب والشفاه ذاتها.
إنها دِرْبَة خطاب حرب أبريل وخطاطته التي تميّز شجرة نَسب الخطاب منذ أنْ نظر إليه عقل قحت كحرب بين فلول وجنجويد مما أورثه تلك التحورات، ابتداءً من قحت وانتهاءً بـصمود وقمم، و الحبل على الجرار، لا سبحة الخطاب تَعدَم فصوصها ولا الأصابع يعتريها الوهن.
ولم يكن مؤتمر لندن في الخامس عشر من أبريل استثناءً فيما يخص جدليّة التجلي والخفاء إذ لِبِنية خطاب الحرب من الدِرْبة والدهاء مما لا يسمح بخروجه عما خَطّته حوامله المحلية والإقليمية والدولية. فكان أنْ رسى قارب الخطاب عند مدينة لندن براكِبِينَ كُثر: فرنسا، ألمانيا، قطر، السعودية، مصر، كينيا، الاتحاد الأوروبي، الاتحاد الأفريقي والإمارات. وتخلَّفَ عن ركب القارب رأسَيْ خطاب الحرب: الفلول والجنجويد.
يبدو للناظر بعينَيْ خطاب حرب أبريل كحرب بين ذينك الرأسَيْن أنه تم استثناء خطاب الحرب من الحضور في بهو قاعات المؤتمر مما يتيح للمؤتمِرِين سعة من الوقت والعقل للتداول حول أبريل وحربِهِ في السودان بمنأى عن رأسَيْ الحرب المنظور لهما كطرفين متنازعين!! لكن للخطاب، أيِّ خطاب، مهاراتُ سريانِ النسغ في عروق الأشجار والتربة من غير عِلم الشمس والضوء.
فخطاب حرب أبريل لا يمكن النظر إليه خارج مرآة تمفصلات المصالح الدولية والإقليمية ووكلائها. فإن غاب الوكيل يحضر من ينوب عنه بثوبه وعطره. فكانت دولة الإمارات العربية ذاك الحاضر بثوبِ وعطرِ الوكيل وسط المؤتمرين ولهاثهم. تشهد بذلك تقارير الأمم المتحدة وعدة منظمات دولية عن دور دولة الإمارات كطرف رئيسي وفاعل في حرب أبريل كمضخةٍ داعمة بالمال والعتاد للرأس “الجنجويدي” في خطاب الحرب. وليس أقلَّ من ذلك استضافتها الكاملة والسخية لرئيس تقدُّم سابقاً ونسختها صمود حالياً.
بل يمكن التجرؤ والقول إن حضور الإمارات، الخفي والمعلن، في ردهات خطاب حرب أبريل، نصاً وجغرافيةً، يتقاصر عنه رأسَيْ خطاب الحرب إنْ أُتيحَ لهما المثول: فالفريسة يَرشِدُ إليها ظلها وإنْ تخَفَّت في ظلال العدم.
هكذا تتناسل أطراف الخطاب، تتبدل نصوصها وزمكانها، شخوصها وجغرافياتها، امتداداتها الإقليمية والدولية، حواملها الطبقية بأزيائها السياسية والثقافية، وتظل حرب أبريل حرب حتمِ ضرورة لخطابٍ لا يَرى في مرآة الديسمبريات والديسمبريين سوى ما يراه القاتل في مرآة الضحية.
التعليقات مغلقة.
الفكر في افخم حلله اللغوية التي تليق به عن جدارة.