‫الرئيسية‬ مقالات كيف يَرى الإله (جانيوس) برأسه “الجنجويدي” كاودا والجبال: في معاينة الإطلالة وشُرفَتِها
مقالات - 4 أبريل 2025, 2:55

كيف يَرى الإله (جانيوس) برأسه “الجنجويدي” كاودا والجبال: في معاينة الإطلالة وشُرفَتِها

صلاح الزين

التاريخ دوماً يتقدم من جانبه المتعفِّن فيولَد النقيض إنْ كان ثورةً تَدفِن ما تَعَفَّنَ وصَدأَ من ذاك الجانب، أو وضعاً آخر يعيد إحياء ما تحلَّلَ مِن ما هو منذورٌ للتلف والفناء، الأول مرهونٌ بقراءة سيرورة التاريخ وتَبَدِّياته كحَتمِ ضرورة تتوسل مقاربة الضرورة تلك بعين التاريخ، بينما الثاني تنحو نحو قراءة ذات السيرورة كحتم ضرورة مقروءة بما هو راهنٌ وماثلٌ كراهنٍ وماثلٍ لا انفكاك منه، أبَديُّ النزوع، جوهريٌّ لا يبارح مقامَ تَجوْهِرِه وثباته، ومِن ثَمّ تَقاصُرْ عين ذاك العقل عن أنْ لا تَرى في مرآة التاريخ غير الأبدي والدائم فتكسر المرآة وتخسر الصورة والتاريخ، كما عبّر عنها مأثور الأهالي بالقول: “مِيتة وخراب ديار”.

هكذا تُقَدِّم بنية الخطاب، كمجموعة تمثلات ثقافية وسياسية وفكرية، نفسها بأرجلٍ طبقية واجتماعية تعمل وفق ضرورات البنية وتماسكها البنيوي. تسمح مستويات بنية الخطاب بقدرٍ من مهاراتٍ تُوفِّر للخطاب انتقالات خطابية وتموقعات فكرية وسياسية لا تخرج عن سلاسة بنية الخطاب وتساوقه. فللخطاب استراتيجيات متنوعة تحكمها مصالح رافعات الخطاب الفكرية والاجتماعية والثقافية. فتَقدُّم أحد مستويات بنية الخطاب أو تراجعه لا يشير إلى اختلالات في بنية الخطاب بقدر ما هي انتقالات وتبديلٌ لأرجل الخطاب اقتضتها ضرورة تماسك البنية الخطابية.

وبما أن التنوع والتغاير أحد سمات سيرورة الضرورة التاريخية، لا يوجَد الخطاب إلا في جوار خطابات أخرى، متنازِعة أو متساوِقة، متقاطعة أو متنافرة، مما يسمح بأحلافٍ وتحالفات خطابية حتى يكون للتاريخ معنىً يَسْهُل مقاربته وقراءة ما يستسره في تقلباته، صعوداً وهبوطاً.

لا حدودَ منظورة لأطماع الخطاب. فقد يستلّ الخطاب من ضلعه ما يعينه على ترميم بنيته وما يمدّه من قوة إنْ ضَعُفَت أقدام خطوِهِ أو اعتراها وَهنٌ يعوق المسير.
وذلك ما كان من أمر الخطاب العربسلامي في معظم تحولاته وسيروراته التاريخية. فكان ميلاد “الجنجويد” من ضلع ذاك الخطاب كقوةٍ طرفية تمد وتسد فتوقات الخطاب العربسلامي في فضاءات الخطاب السياسي في السودان منذ ما قبل حرب أبريل بعهود مديدة.

هكذا اُستُحدِث “الجنجويد” كماكِينةٍ طرفيةٍ مستأجرة مناطٌ بها إنجاز مهامٍ تقتضيها بنية الخطاب العربسلامي. فللخطاب شغيلة يوكل إليهم مهامُ إنجازِ ما عجز عنه الخطاب من مهام ماثلة وأخرى مؤجَّلة، إنْ ضَعفاً أو تكتيكاً خطابياً.
أنيط بهم إنجاز حربين: حربٌ في دار فور ضد الحركات المسلحة، منذ ما يقارب ربع قرن من الزمان، والأخرى حربُ حتمِ ضرورة تالية لانتفاضة الديسمبريين ضد ذات الخطاب العربسلامي وأطرافه الخطابية، العسكرية والسياسية. فكانت حرب أبريل 2023، والتي كانت شهادة ميلاد انتقال “الجنجويد” من طرفيتهم الخطابية والعسكرية إلى شركاء في الخطاب، خطاب حرب أبريل، بقامةٍ لا تَقِلّ طولاً وقدراً عن الشريك الذي استحدثها أو أنجبها، سيان، فيما أسميته بالخطاب “الجانوسي” ذو الرأسَيْن “الفلولي” و”الجنجويدي”، بامتدادات إقليمية ودولية، مما يقتضي مقاربة خطاب حرب أبريل بمنظور وفِكرٍ يُرَى إليه في وحدته الخطابية ذات الرأسيْن: بَتْرُ أحدهما لا يعني فناء الآخر. وهذا ما عجز عنه عقل “قحت” في كل تمحوراتها وإبدالاتها وانتقالاتها الهيكلية والتنظيمية، نصياً وجغرافياً، للانفكاك من فخاخ منظورها الذي يَرى إلى (جانيوس) برأس واحد فقط. منذئذ أصبحت حبيسة ذاك العجز حتى وقت انشطارها إلى نصفين: “قمم” و”صمود”. الأولى رست بشراعها عند “تغريبة نيروبية” أُسمِيَت “التأسيس” بينما الأخيرة كَسَرت أشرعة رحيلها ورَسَت عند شاطئٍ يتوسد، حتى حينه، مخدة الصمت والعجز عن القول والإفصاح.

هكذا صار لِبنية وعين عقل “قحت”، الرائي لخطاب حرب أبريل، عقلًا محايثًا يُفصِح عن عجزِ رؤيتها ومِن ثَمّ يَخلع عليها ذات عباءة الخطاب الذي تُقارِبُهُ، الخطاب “الجانوسي” برأسيْهِ “الفلولي” و”الجنجويدي”: ذاك بتلك.

بنعالٍ وعِدةٍ جنجويدية خالصة خطت “التغريبة النيروبية” – ( ميلاد ” تاسيس ” ، نيروبي، 2/17/2025 ) – فوق بساط يمايزها، قولاً وعملاً، عن نصفها الآخر “صمود”. وأمعنت في تميّزها بالدعوة لتكوين حكومة موازية برأس ومُحَيّا جنجويدي مقابل حكومة الأمر الواقع برأسها الفلولي لينشطر الإله (جانيوس) إلى إلٓهَيْن، لكلٍ رأسُهُ وجغرافيته وقاطنوها، ليُكمِل الخطاب، خطاب حرب أبريل، معراجَهُ نحو سماوات بارَكَت، منذ البدء، ضرورة انشطار الخطاب، كاستراتيجية خطابية وبنيوية، تُفضي بمسيرةِ بِنيةِ الخطاب إلى تقاطعات عندها تكون سدرة معراجه. بقول آخر، التوسُّل بالتوازي لتتقاطع دروب الخطاب عِوضاً عن التناظر والتوازي لارتهان بنية خطاب الحرب بوكلاءٍ وصيارفة خارجِيين، إقليميين ودوليين، كانوا شهودا على تحرير شهادة ميلاد خطاب حرب أبريل 2023.

هكذا صادَقَ خطابُ الحرب على منظور ومنهج النظر إليها كحرب بين رأسَيْن مما استلزم مكانًا وجغرافيا لكل رأس.

في تغريبته النيروبية تلك أمعنَ الرأس الجنجويدي وأوغَلَ في التمايز أكثر عن الآخر الفلولي بطَرْقِ أبواب الحركة الشعبية/شمال كأحد فصائل خطاب السودان الجديد. فشهِدَ أحد فنادق مدينة نيروبي منصةَ جلوسها، ضمن آخرين، كلٌ من عبد العزيز الحلو وعبد الرحيم دقلو. الأول بعقلِ خطابِ السودان الجديد الذي يَرى إلى التاريخ كجسرٍ نحو التنوع والجمال والكبرياء بينما الثاني سليل أسرة لا تعقل سيرورات التاريخ خارج شرايين شجرة نسَبِها سوى محرقة لكل ما هو مختلف في جماله وكبريائه. أحدهما يرى في الاختلاف والتنوع دعوةً للحياة بينما الآخر يراه ذريعة لإفناء الأحياء والحياة.

وفي منصتهم تلك كان الأول، عبد العزيز الحلو، وبِسِعَةِ كرمِ خطاب السودان الجديد أنْ خَلَعَ على الثاني، عبد الرحيم دقلو، اسم (الرفيق) كاِسمٍ تم مَهرُهُ بتضحياتِ رفاقٍ له أفنوا حياتهم زَوْداً عن سودانٍ مغايرٍ محلومٍ به لتختلط دماؤهم بدماءِ من تؤجَّر بندقيتهم بثمنٍ معلوم ليس من بينه الحلم بسودان مغاير وجديد، تصديقاً لقول نزار قباني: “أسخف ما نحمله الأسماء”.

من شرفة استئجاره ومخزون تنشئته، كضلعٍ مُستلٍّ من بنية الخطاب العربسلامي، كانت إطلالة الخطاب ذو الرأس الجنجويدي وبِزيِّ تغريبته النيروبية، على فضاءات خطاب السودان الجديد واشتغالاته. فَمَن اُستؤجِرَ يمكن بدوره أن يَستأجِر: متكئاً على جدار هذه الحكمة اعتلى الرأس الجنجويدي سرج دابته ويمَّمَ شطر سلطة خطاب السودان الجديد في كاودا وأعالي الجبال: فـ”النية دابة سيدها”.

تَوسّلُ الرأس الجنجويدي لهذه الاستراتيجية كان تاليًا لتراجعه العسكري وتقهقره في ميدان الحرب خلال الشهور الأخيرة. لا تعدم هذه الاستراتيجية خبرة استئجارها وتنشئتها في مرابع بنية الخطاب العربسلامي منذ طفولتها الخطابية وصولاً لرشدها الخطابي كنِدٍ بكعبٍ بعلو ذات الخطاب ولا يعاني من عوَزٍ مالي وموارد تُوفِّرها صلاته وتعالقاته الإقليمية وما راكمَ من ثروات وعلاقات محلية وإقليمية. وبخبرة طفولته ورشده الخطابي بين ظهرانَيْ الخطاب العربسلامي ما يسوق له تأسيس خطاب هو مركز بنيته وعقل اصطفافاته في اشتغاله جوار خطابات ماثلة وحتى أخرى يمكن استحداثها واستنباتها. فالخطاب واستراتيجيات مكره، كالهواء واللعنة، مِلكٌ مشاع لكل ذي عقل يتدبر حتى إنْ كان ذلك بتبني العلمانية كأطروحة تقول بالحقّ باختلاف لون حدقات العيون واللثغة والمعبود.
هكذا صَكّت مواثيق “تأسيس” منتجع تغريبتها النيروبية في العاصمة الكينية، نيروبي.

سيكون هذا الاختبار السياسي الثاني لاشتغال خطاب السودان الجديد بعد أن اجتاز اختباره الأول في انتفاضة أبريل 1985 والتي تمخضت، من قبل ومن بعد، عن تحالفاتٍ ومشهدٍ سياسي شبيهٍ، في قليل أو كثير، بما هو ماثل الآن وتالٍ لانشطار “تقدُّم” خلال الحرب، حرب خطاب أبريل 2023، إلى “صمود” المستعصمة بصمتها و”قمم” التي تحفل بثوبٍ “تأسيسيٍّ” برأسٍ “جنجويدي” أُسَريٍّ “دقلوي” تتقاسم دمه وصبواته شجرة نَسَبٍ تستمد سُقياها من نبعِ سلالةِ إثنية عرب الجنيد. ولأجل ذلك لا يَرى في تحالفات الخطاب برأسه “الجنجويدي” ذو التأسيس النيروبي أية انتقاصات يمكنها أن تطال هيئته، نَسَباً ودماً، حتى وإنْ كان تحالفاً مع من يَرى فيهم نقصاً وتلويثاً لدمِهِ ومعتقده وأستأجرت بندقيته، ذات دهر، للتنكيل بهم واقتلاعهم موطناً وثقافة.

خطابٌ جديدٌ قديم واستطالةٌ لخطابٍ عربسلامي قديمٍ جديد بيدٍ مشرعة وممدودة نحو أعالي جبال كاودا وسلطة خطاب السودان الجديد يدفع إلى التأمل والحدس بما كيف يكونه قادم المشهد السياسي السوداني، حال ابتلعت الحركة الشعبية/شمال طُعم هذا الخطاب ذو الرأس “الجنجويدي” المربوطة مشيمته بالرأس “الفلولي”، كتوأمين سياميَيْن، وجلوس كليهما على كتفي الإله (جانيوس) إنْ كان سيكون انتصار الإله أم سقوطه وخيبة الخطاب أم انهيار كليهما: سماءً وأرضًا ليكون انتصار التاريخ ومكره، والتاريخ أشد الماكرين.
ننتظر لنرى.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 5

كن أول من يقيم هذا المقال