بثينة تروس
‫الرئيسية‬ مقالات حكوماتنا .. ومظالم نسوية مستمرة!

حكوماتنا .. ومظالم نسوية مستمرة!

بثينة تروس
لقد استوقفني شعار احتفال هذا العام بيوم المرأة العالمي، الذي يحمل شعار “الحقوق والمساواة والتمكين لكافة النساء والفتيات”. وأثناء مروري بمرحلة الكهولة، تعجبت: لماذا ظلت هذه المطالب البسيطة في جوهر العدالة أمراً عصياً على التحقيق؟ كيف أمضينا أعمارنا في السعي وراء هذه الحقوق ولم نحقق بعد ما نصبو إليه؟ تخصيصاً في ظل هذه الحرب، انتهى الحال بالنساء إلى البحث عن أساسيات الحياة من سكن، أمن، غذاء ، كساء وعلاج! ثم مرّ في ذاكرتي بعض من مظالم حياتنا في ظل دولة أوليغارشية يحرسها علماء السلطان والعسكر. بين حكومة جعفر نميري (16 سنة) وحكم الحركة الإسلامية برئاسة البشير (30 سنة)، لم تصنع تلك الأنظمة إلا المزيد من الذل والهوان للنسا، وإهدار طاقاتهن عبر الأجيال المتعاقبة.
حين دق جرس الطابور، تم جمعنا في باحة المدرسة. تم الإعلان عن أن جميع المدارس ستخرج اليوم لاستقبال “السيد” محمد عثمان الميرغني. كانت فرحتنا العارمة لأن اليوم سيكون بلا جهد دراسي. نعم، كان هذا الدرس الأول في التسييس. مشهد أطفال تحت شمس الظهيرة الحارقة، بلا ماء، يقفون لساعات طويلة في انتظار وصول قطار السيد. في بلد لم تعرف قيمة الزمن إلا في ظل الاستعمار، كان زعماء القبائل والإدارات الأهلية هم الأجهر صوتاً والأطول في الصفوف الأمامية. وأطل السيد ملوحاً بيده من نصف نافذة القطار، بينما الشعب يهتف متدافعًا عاش (أبو هاشم)! لم نشاهده. ثم شهدنا أحزابًا طائفية لم تُفطم عن التعلق بالسلطة.
وفي الديمقراطية القصيرة، تم حشدنا لكي نمارس التصويت في الانتخابات. لفونا بالثياب وأعطونا أسماء نساء غائبات. بعد الاقتراع، مددنا أصابعنا النحيفة ليخط لنا الرجال “الكذبة” علامة بالحبر (الكوبيا) على أننا قد قمنا بالتصويت. كانت هناك لجان خارجية وأخرى تضم شيوخ الحي المحترمين! الجميع كان يعلم أن هذه الكشوفات مزورة، وأننا كنا مجرد ممثلين. هكذا تم تشويه الديموقراطية في أعيننا كصبايا. تلك بدايات سابقة لانتخابات “الخج” التي برعت فيها حكومة الاخوان المسلمين، على نحو يؤكد أن السياسة كانت مجرد لعبة ذكورية بلا أخلاق.
شيطنة الحركة الإسلامية في مشروعها المزعوم “إعادة صياغة الإنسان السوداني” كان هدفها الأول هو التمكين. تم تحويل حظ أخوات نسيبة إلى مجرد صفقات بين الاستثمار والبرلمان. تُمرر قرارات لقهر النساء، ويتم تشريع قوانين تهينهن بدلاً من أن تحميهن، كما فعلت القانونية بدرية سليمان، التي شرعت معهم قوانين سبتمبر 1983 ً. وتبارت اللجان الأمنية والعسكر في سبيل رضا الحكام، فسنوا قوانين النظام العام، وأقاموا محاكم للزي ومخالفة الآداب العامة. بينما قادة الإسلاميين لا يتورعون عن ارتكاب الزنا وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، بل في شهر رمضان، دون عقاب أو رادع. ويشرّع لهم الفقهاء بأن عورة النساء أشد جرماً من فساد الحكام.
قد عانت النساء المناضلات من أجل كسب مزيد من الحقوق ورفع التمييز من أولئك الذين يرفعون المصاحف على أسنة الرماح. فقد تم استخدام التشريعات المستمدة من الشريعة الإسلامية، التي لا تصلح قوانينها لتطبيقها في حاضر النساء اليوم، كأداة للتمييز الاجتماعي والقانوني. وقد شرّعت تلك القوانين لوصاية الرجل على المرأة، وأضفت طابعاً للعنف الممنهج من خلال سيادة قوانين الأحوال الشخصية. وفي الوقت الذي يتعجب فيه البعض كيف لدولة تدعي تحكيم الشريعة الإسلامية أن يكون فيها منصب “اختصاصي اغتصاب”، يغضون الطرف عن حرب دارفور، حيث كان “ربها” البرهان وحليفه حميدتي (حمايتي) يتفنّنان في استخدام سلاح الاغتصاب. مرورًا باعتصام القيادة وحرب 15 أبريل اللعينة، ومسرح حربهم أجساد النساء.
كنا نعلم ونحن نناهض قضايا التمييز المدعومة من رجال الدين أن قضية المواطنة المتساوية تبدأ من “حصة الدين”! دخل علينا في الثانوية مدرس التربية الإسلامية الذي كان الجميع يلقبه بمولانا شيخ حسن، وكان يصلي بالناس في المدينة صلاة الجمعة. طرح شيخ حسن قضية التعدد بشكل لم يترك لتلك الفتيات خياراً سوى فهم أنهن سلعة تُشترى وتُباع! وحين كنت مسنودة بفهم من داخل سوح الإسلام، يناهض فهم رجال الدين القاصر لحقوق المرأة، كنت أؤمن بأن هناك نصوصاً أصلية في الدين تسمح بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة. الرجل الواحد يجب أن يقترن بالمرأة الواحدة، وليس من العدل أن يكون نصيب المرأة في الزواج ربع رجل! انتهى بنا النقاش إلى حرماني من الحصة طوال العام، بينما يبدأ درسه، رحمه الله قائلاً (الحصة دين، على المسيحيين والجمهوريين مغادرة الصف).
خلاصة الأمر، لم يكن التمييز والتهميش في بلادي حكراً على فئة نسوية دون أخرى، فالمعاناة التي لاقتها النساء في ظل تلك الحكومات لا توصف إلا بأنها تثير العار في السلم والحرب! وعلاج هذه المظالم يكمن في حل إشكالية كيفية حكم السودان. أصبح من الواضح أنه لا يمكن تحقيق ذلك من خلال فهم ضيق وفئوي مهما كان الوهج الذي يحيط به، بل يتطلب الأمر برنامجًا وطنيًا شاملًا يعزز السلام ويقوي الوحدة بين جميع شعوب السودان، بعيدًا عن فكرة تقسيم البلاد.

 

 

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 2

كن أول من يقيم هذا المقال

تعليق واحد

  1. الأستاذة بثينة،
    تحية طيبة

    مقالك هذا يعد شهادة قاسية وصادقة، شهادة لا تترك مجالًا للوهم أو المجاملة. إنه ليس مجرد استدعاء للماضي، بل تفكيكٌ دقيقٌ لبنية الظلم التي تعيد إنتاج نفسها تحت مسمياتٍ جديدة. في كل مرحلة، تتبدل الوجوه، تتغير الشعارات، لكن تظل المرأة في قلب المعركة، لا بوصفها مقاتلةً فحسب، بل بوصفها ساحةً للصراع ذاته.

    يبدو أن النضال من أجل الحقوق والمساواة ظل عالقًا في دائرة مغلقة، حيث تتحول كل انتفاضة إلى درسٍ جديد في الخديعة، وكل وعدٍ بالتحرر إلى قيدٍ يُعاد تشكيله بأكثر الطرق دهاءً. فهل المشكلة في الأنظمة القامعة وحدها، أم في البنى العميقة التي تجعل القهر يبدو وكأنه النتيجة الطبيعية للأشياء؟

    قصتك مع التعليم، مع الديمقراطية الزائفة، مع العنف المشرعن باسم الدين والقانون، ليست مجرد سيرة ذاتية، بل مرآة لانكسارات أجيال بأكملها. ولعل فريدريك إنجلز كان مصيبًا حين قال: “إن درجة تحرر المرأة هي المقياس الطبيعي للتحرر العام.” فإذا كانت المرأة لا تزال محاصرة بأنظمة القهر، فذلك ليس إلا انعكاسًا لعالمٍ لم يتحرر بعد، عالمٍ يخشى المرأة الحرة لأنه يخشى الحرية ذاتها.

    لكن، هل يكفي أن نكشف الظلم؟ هل يكفي أن نفكك الأنظمة التي صنعته؟ أم أن التحدي الأكبر هو خلق واقعٍ جديد لا يُعيد إنتاج هذه الأسئلة كل عام؟
    هنا، لا يكون الحل في مجرد إصلاح القوانين أو استبدال الحكام، بل في تفكيك الأسس التي جعلت القهر ممكنًا من البداية—في إعادة تعريف مفاهيم العدالة، السلطة، والحرية خارج القوالب التي صنعتها المنظومات ذاتها.

    وهنا يكمن السؤال الحقيقي: كيف نصوغ تحررًا لا يكون مجرد استجابة للقمع، بل قطيعة كاملة معه

‫التعليقات مغلقة.‬