‫الرئيسية‬ مقالات الاغتصاب: حوار الحرب والجسد

الاغتصاب: حوار الحرب والجسد

صلاح الزين

الجسد، أيًا كان بشرًا أو جمادًا، هو ما انتهت إليه سيرورة الطبيعة في رحلتها الصاعدة منذ الأزل

تلك السيرورة المنهَكة ارتفقت بالخيال لِسَتْرِ كبوات تلك الرحلة حتى تكون الطبيعة يدًا للآلهة بلونٍ وفرشاة في مرسم الوجود

وللآلهة زلات كما للرسام هفوات وللون حياءٌ يُخرِس فصاحتَه فلا ترضى عنه اللوحة ولا هواة الاقتناء في متجر الجمال

الطبيعة والخيال اِحتازا على بُنوة الجسد فأتت المخيلة لتسد عجز الخيال عن تصوُّر الجسد إنْ كان تجميلًا أو تقبيحًا

بذلك كانت المخيلة يدَ الإله الأخرى العابرة لهيولية ما هو طبيعي، متعينٌ وهناك. فكان انتصار الجمال أينما كانت هناك حياة وآلهة مسنودة بمخيلة وخيالِ عبادٍ أوجدتهم ليوقظوا سهوَها إنْ سَهت حتى لا ينسرب الجمال إلى صحارى القبح: آلهة ومخلوقاتها يكملان بعضهما البعض لحراسة غابة الجمال مِن ما يتربص بها من صهد وحراز

فكان أنْ صار الجسد هبة الله لأنسنة خام البايولوجية وجلافتها لتشكر خالقها وتعاتبه، في ذات الآن، إنْ أخطأ سهمُهُ وأضاعت خطواته درب بستان الجمال

كما تنسج العنكبوت بيتَها من إمعائها تخلّقت الثقافة من ضلع الطبيعة وثقّفتها. ابتعدت عنها حتى لا تكونها لتعود إليها كرفقة تسامرها وتعينها على درء كوارثها القادمة منها. فكانت النصوص والأبجدية والخيال طبيعةً أخرى بطبائع مغايرة للطبيعة المناظرة.
فكان البشر كائنات نصية، ضمن تعريفات أخرى، أُعيدَ إنتاجها فيما بذله البشر من كتابات وخيالات للجم ما في الطبيعة من جلافة وخشونة وتجاوُزُها في ذات الآن

تعددت وتنوعت الكائنات النصية: لصوص، وزراء ووكلاء وزارات، كُتّاب وبائعات هوى، فقهاء ومفسرون، مناضلون وصيادو سمك، مغتصبين وحفارو قبور، سكارى و مؤذنون الخ..

الخيال، الخيال وحده ضمن نواظم أخرى، هو الرحم العريض الاتفقست منه تلك الكائنات وخرج هذا السيل البشري ليحفر دروبًا متعددة متقاطعة ومتوازية نحو حتفٍ أو حياة، سيان

ولأن الجسد هو أحد هبات الطبيعة واعتذارُ الآلهة عن بعض هفواتها، أصبح الجسد معادلَ كل ما هو حي. الحياة جسد، توجَد إنْ انوجد وتُعدَم إنْ انحتف. ويأتي الخيال، المقدس منه والبشري، بنصوصه ومخيلته ليقول ما تقاصر الجسد عن قوله كحياة

الحرب في غيِّها كمحرقةٍ للجسد هي اختراع بشري تتعالى الآلهة عن عطن قدمها في وَحلِه وتغلق بالقدم الأخرى بوابة المتسللين إلى عرشها طمعًا في المباركة والتبريك

تعالت الآلهة عن رفث الحرب!! فالجسد معادلها الأرضي به تتعرَّف وإنْ وُجد توجد، وتفنى إنْ غاب. تمكث في سمائها وتصعد بعرشها نحو سماء آخر من غير أن تخضَّ عصافير قيلولتها بالمتحاربين وصيحاتهم.
تعقد حاجبيها بالدهشة ومن عليائها تهمس: العباد ديل مجانين ولا شنو ؟!

وفي الحرب يتقدم المُغتصِب تسبقُهُ قافلة رحلة خياله تلك حول كيفية ما يكون عليه جسد العدو كيفما تَموضَع وتبدّى، إنْ كان بشرًا أو غير.
تطول رحلة قافلة الخيال تلك فيُنهَك خيالُ المُغتصِب ولكن لا يصيبه الأعياء، فالخيال بذرة الآلهة وعشبة الخلود ورماد الخليقة.
يحط راكب تلك القافلة عصا ترحاله فوق برية من يَغتصِب بعد أنْ اغتصبَهُ ذات الخيال، خياله، والقافلة على تخوم الوصول. فالخيال متعَبٌ ومضنىً ومثابرٌ كصخرة سيزيف!

المُغتصِب مدهونٌ بغرورِ الامتلاك حتى لو استحال تعيينُهُ، فللخيال مخازن تتْرَى لا تكف ولا تنضب. وفي خيلائه ذاك يرى إلى الوجود وكائناته كسديم، سديمٍ أبيض حدودُهُ ما خافت الآلهة أن تخطو من فوقه فتزَلّ قَدَمُها وتسقط في حفرة العدم

هكذا يأتي المغتصِب إلى ضحيته راجلًا من فوق جسرِ مِعمارِه وسِقالاتُهُ تنوء تحت ثقل المخيلة وسماكتها بفحيحٍ ولهاثٍ لغزوٍ قَبْليٍّ لما هو كائن في مخيلة المغتصب: فالضحية هناك بكامل قِوامِها قبل سقوطها في بؤبؤ عين المغتصب

انمسخت الرؤية رؤيا فانتصر المغتصِب قبل أن يَغتصِب، ولعجلته نسيَ أن يمسح دم اغتصابٍ كانت ساحته هو نفسه!

هكذا يأتي المغتصِب لضحيته كشبح بقوامٍ من دخان فيخسر الآخرة بعد أن خسر الدنيا !!

وبغرائز تلك الحراب يغرس المغتصِب راية الانتصار فوق جسد الضحية المسجّى في سديم المخيلة والواقع. فيكون الانتصار نزوع إحلالي به يتوهم المنتصر انتصار الخيال على المخيلة أو عكسها.
وبتلك الحراب وسِنانُها يصبح كلا الخيال والمخيلة حيزًا للإيجار بغير حيطان وعَقدٍ ومالك !!

ولأن المغتصِب كائنٌ نَصّيٌّ في المبتدأ والختام وسليلُ أحفادِ ثقافةٍ بجينالوجيا وشجرةِ نَسبٍ بجذور مغروسة في مياه نصوصٍ سابقة ولاحقة، أقول لأنه كذلك، يرى إلى فعل الاغتصاب كانتصار سردياتٍ ونصوصٍ على سرديات ونصوص أخرى

بكلمة: الاغتصاب هُوَ هُوَ إسكات صوت الضحية حتى لا تَكتب نَصها وتسرد سرديتها لتكون.
هو سعيُ قافلةِ الخيال تلك، في حلها و ترحالها، لإخراس الصوت الذي به يُعرَّف الكائن كما يُعرِّف الغيمُ سفورَ البرق وتُعرَفُ الخيبةُ بما يلي من خيباتها

وبذلك يُعلِن المغتصِب، بوعيٍ أو بدونه، تحويلَ الخيال لأيديولوجيا لتكون الرصاصة فاتحة انتصار البصر على حكمة البصيرة قبل أن يُعلن الاغتصابُ “وظيفةٌ” بأجرٍ وحوافز.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 4.8 / 5. Total : 6

كن أول من يقيم هذا المقال