
الحكومة الموازية: ورطة “تقدُّم” البنيوية بين البقاء فوق شجرة التاريخ أو السقوط في سديم الجغرافيا
صلاح الزين
للتاريخ شجرة نَسَب وآباء كما له ذرية وسلالة. كلٌ بمرايا تُظهِر وجه الآخر وما استدق من ملامحه. تغييب إحدى المرايا يُفضي لتغييب كلية وجه الآباء ونَسْلِهم ومن ثم تضيع شهادة الميلاد والقربى لكلا الاثنين ويَعُم اليُتْمُ،
يفقد الراهن والماثل جينات نَسَبهِ فيفقد نَسبه إلى ما أنجبه ووهبه الحياة والقوام. يصبح اليُتْم والعدم صنوان بمرايا لا ترى فيها الظاهرة أياً كانت، كحرب أبريل 2023، في تناسلها وسيروراتها. يسقط هذا العقل في وَحْلِ الفكر اليومي بخسران ربطه بأمسٍ أنجبه ومن ثم يرى إلى وجهه وحرب أبريل في نصف المرآة فقط.
هكذا، في مبتدأها وميلادها، سقطت “تقدُّم”، في رؤيتها لخطاب حرب أبريل، بأن عاينت إلى مرآة الخطاب في أحد نصفيها: النصف “الفلولي” وصنوه “الجنجويدي” فضاعت رؤية الحرب في مرآتها الكاملة، مرآة التاريخ.
وذلك ما آلت إليه “تقدُّم” في سقوطها الداوي من كتف التاريخ إلى نعل الجغرافيا: موضوعة الحكومة الموازية، ومن ثَم الانحطاط بالوطن ليكون كتفاً بكتف انحطاط الرؤية التي كسرت مرآة خطاب حرب أبريل إلى نصفين: نِصفٌ “فلولي” ضد نِصفٍ “جنجويدي” مقابل نهوض الديسمبريين بمرآة كاملة، لا منقوصة ولا مكسورة، تصدح وتهتف: العسكر للثكنات والجنجويد ينحل.
خرجت “تقدُّم” من حالق التاريخ بمرآته الكاملة لتتهاوى بنِصفَيْ المرآة إلى قاع الجغرافيا ليضيع كلا الجغرافيا وتاريخها وينمسخان.
كانت نطفة هذا السقوط منثورة فوق رحم النظر إلى حرب أبريل في مرآةٍ مكسورة إلى نصفين لا المرآة في كمالها حين كانت ذات “قحت” جزءاً من تلك المرآة وزينتها مُمثِلةً لشعارات الديسمبريين!!
مال مزاج “تقدُّم”، بسببٍ من حَوَلِ رؤيتها إلى خطاب حرب أبريل، نحو نصف المرآة “الجنجويدي” مع الإبقاء على النصف الآخر “الفلولي” كمجرد بهار ومسوغ يَشدُّ من عضد الميل إلى النصف الأول مقابل النصف الثاني وغض النظر، بوعي واعٍ (!)، عن استيلاد “الجنجويدي” من ضلع “الفلولي”. وبالنتيجة رعَت نشوءَ وميلادَ خطابٍ، وسط القوى المدنية والسياسية، يَرى إلى خطاب حرب أبريل كما تراه “تقدُّم” واقعياً وافتراضياً: “فلول” يصوبون بنادقهم نحو “جنجويد” وما تبع ذلك من “بلابسة” بسهامٍ من قَولٍ مُصوَّب نحو “جَغَّامة” يلتحفون الفضاء الرقمي والاسفيري ويسهرون على رعاية البقالات والمولات الرقمية بكل ما يستطيعون عرضه من بضائع ومؤن.
هكذا “رُقْمِنَت” digitalised حربُ أبريل وخِطابُها وأُردِفَ فوق سرجِ دابتها حربَان يأخذان بِخناقِ بعضهما البعض.
كان لقاء “تقدُّم” مع حميدتي في أديس أبابا في يناير 2024 وما تم بينهما من تفاهمات وإعلان سياسي، أقول كان مفتتَحاً لدروبٍ ومسالك سرية سارت فوقها قافلة خطاب “تقدُّم” واستراتيجياتها وتكتيكاتها اللاحقة، بوعي أو غَيرِهِ، باتساق نبيل ورؤيتها لحرب أبريل كحربٍ بين رأسَيْن “فلولي” و”جنجويدي” لا يَرِدان ذات نبع الخطاب. فكانت الدعوة من بعض قادة “تقدُّم” بِحَثِّ سكان المدن والحَلَّال في ولاية الجزيرة، التي تم نهبها وانتهاك حرماتها من قِبَل الجنجويد، بضرورة التساكن مع ذات المحتل والمغتصِب وتشكيل ما يسمى بلجان خدمات في المناطق المنتهكة!! إنها أناقة الاتساق في الرؤية إلى حرب أبريل كحرب بين خطابَيْن جنجويدي وفلولي.
وبسبب رمَدِ تلك الرؤية أدارت “تقدُّم” ظهرها للتدخل الخارجي لإذكاء الحرب من قبل عدة وكلاء على رأسهم دولة الإمارات، بشهادة منظمة الأمم المتحدة وحتى بعض الحكومات والمنظمات الدولية ذات المصداقية. بل ذهبتْ أكثر من ذلك واستنكفتْ عن إدانة الامارات في ما أَعلن قادتها وناطقوها من تصريحات صحفية ولقاءات متلفزة، وحتى وجود الإمارات كطرف في طاولة المفاوضات الدولية للتداول حول كيفية إيقاف الحرب!! استطراداً أصبح السقوط في هاوية العدم وفراغ القول بلا قاعٍ ولا سقفٍ منظور.
وفي اختلال واضطراب مقاربة خطاب حرب أبريل، على نحو ما ذُكر عاليه، كان لا بد مما ليس منه بد: انفجار بِنْية خطاب “تقدُّم”، متناً وقولاً، والإفصاح عما تم السكوت عنه وإخفاؤه لحين رسو القارب، قارب “تقدُّم” الأوديسي المُساط بِريحٍ إقليمية ودولية، على شاطئٍ وصباح. فكان حتم انشطار “تقدُّم” إلى “تقدُّمَيْن” بمثل انشطار رؤيتها لخطاب حرب أبريل ذو الرأسَيْن: فلولي وجنجويدي. وبذات المنوال بادعاء كل طرف اتساق رؤيته في كيفية ما يجب أن يكون ويرى إليه من وطنٍ وبلاد. ولا أحد يضمن ما قد يجود به الخطاب من تناسلات أخرى في المنظور والبعيد.
إنه حتم سقوط الخطاب عندما يَستلف مفاهيمَ ورؤى خصمه، فيصيره ويكونه لينطق بذات اللسان في القول وما لم يَقُل ويصمت عنه. فيَرِد الخطاب ذات منبع السُقيا قبل أن يَقْفُلَ راجعاً لاستراحة خطابية بتكتيكات واستراتيجيات متجاورة لحين النهوض، مرة أخرى، والركض نحو ذات النبع لارتشاف ماء السراب في انتظار جولة خطابية أخرى للتماثل والتصاهر.