‫الرئيسية‬ مقالات البيان (الكتابة) وعَجزِهِ عن الإبانة والقول: بيان/مناشدة (تقدُّم) نموذجاً
مقالات - 8 نوفمبر 2024, 22:07

البيان (الكتابة) وعَجزِهِ عن الإبانة والقول: بيان/مناشدة (تقدُّم) نموذجاً

صلاح الزين

تقول (تقدُّم) وتطلق نداءً عاجلاً “لإنقاذ المدنيين العالقين والنازحين في شرق الجزيرة ” (صحيفة مداميك، 11/7/2024)

المقصود بنص/كتابة (تقدُّم) إصدارُ بيانٍ يتعاطى مع كارثة العالقين والنازحين بشرق الجزيرة.

ذلك يستدعي التمييز بين البيان كنَصٍّ يود قولَ قولٍ بعَينِهِ والنَص كفضاءٍ دلاليٍّ كتابيٍّ لا يشير وإنما يلمح، والمناشدة كدعوة تُعنَى بسؤال الإنقاذ rescue and survival أكثر منها التعاطي مع أسباب الخراب والموت.

الأول، البيان، طابعُهُ التحديد والتعيين كنَصٍّ إبلاغيٍّ يقول ولا يشي وليس به حياء من يغلبه القول ليقول ما يود قوله من غير إلباسِ القول عباءةً تستر ما تحتها.
والثاني، النص كفضاءٍ دلاليٍّ يشي ولا يقول، يستلزم إلباس الكتابة لباساً بنِيِّةِ إخفاء القول/الكتابة، حدَّ الخروج عن التجنيس النَصِّي، مما يُكسِبُهُ صفةَ ما هو استاطيقي وجمالي والذي لا يتأتى إلا بتوفُّرِ القارئ على خبراتٍ ودِرْبةٍ في التعاطي مع هكذا نصوص وطبيعة بِنيَتِها.

البيان، أيُّ بيان، في قاموس الإصطلاح السياسي، منظوراً للسياسة كممارسة واقعية تُعنَى بالمعاش والكبرياء، وليست في خانة الممارسة النصية التي تشتغل على النص بنيةً ومعنىً، غير معنيةٍ بما هو خارج فضاء النص والذي تستبطنه إحالات وتلميح.

لكل قارئٍ، كمستقبِلٍ لما يقرأ، عدة مقاعد متغايرة ومختلفة باختلاف المقروء إنْ كان بياناً حوْلَ أمرٍ سياسيٍّ أو نَصٍّ تخبو فيه السياسة ومفرداتها حد العدم.
الأول (البيان) معنيٌّ بالتحديدِ والتعيين، بينما الثاني معنيٌّ بالسكوت عما يود قوله، فيشي ويلمح عكس الأول الذي يقول ليقول تحديداً وتعييناً.

يقول بيان أو نداء تقدُّم “إن هولاء المدنيين يعانون من أوضاع كارثية تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، حيث أصبحوا في مواجهة مباشرة مع مخاطر جسيمة تتضمن نقص الإمدادات الغذائية والطبية وغياب المأوى الآمن وانتشار الاوبئة، إلى جانب التهديدات المستمرة التي تتعرض لها حياتهم بسبب العمليات العسكرية”، ويخلص البيان إلى مناشدة الأمم المتحدة والصليب الأحمر والهلال الأحمر لمد يد العون لإنقاذ هؤلاء العالقين والنازحين.

سكَتَ البيان عما يود إبانته وتبليغه فانتفت عنه صفة البيان المعني بإبانة القول والإفصاح!!

استطراداً أصبح بياناً منقوصاً بنقص التحديد وغياب التعيين: لماذا حدث ما حدث؟ ولماذا أولئك القوم النازحون نازحين وعالقين؟ وهل ما ألَمَّ بهم وأحالهم إلى نازحين وعالقين بفعل كارثة طبيعية، زلزال مثلاً، أو جفاف وسيول؟

هنا البيان لا ينتخِب القارئ، قارءَهُ، فيدخل في زمرة الكتابة التي تَقرأ نفسها لا تلك المقروءة بقارِئِين بعينِهِم فيسقُطُ البيان في بِركة العدم الذي لا يقول ولا حتى تُصادي جَنباتُه قولَ قولِهِ، بيانٌ والسلام!!

عكس البيان الذي تَخُطُّهُ أصابع الواقع بحبرٍ من دمٍ وقهر: عشرات القرى والحلال في شرق الجزيرة تم إخلاؤها من ساكنيها ونُهِبوا وأُذِلوا واغتُصِبت نساؤها بمليشيات الجنجويد وشهياتِهم للقتل والتنزيح.

سكتَ البيان، إنْ كان حياءً أو تواطؤاً، عن قولِ ما هو هناك ومعلومٍ ولم يقل شيئاً يرشده للخروج من ورطة البيان الذي تنقصه الإبانة ويكتفي بفراغ القول والرهان على حصان السراب والأشباح. وبذلك يبطُلُ البيان ويصاب بالكساح وغموض التبيين لانتفاء التسمية والتعيين مما يُخرِجُهُ من خانة البيانات وقَولِها.
بيانٌ مبهَمٌ لقارئٍ غامضٍ ملفوفٍ في غموضِ القول.

ومن ثم ينفتح خطاب حرب أبريل 2023 على ما يود خطاب الحرب “الجانوسي” ذو الرأسين “فلولي” و”جنجويدي” على غموض بنية خطاب الحرب الذي يروِّجُ له البعض بالبحث عن سؤال من أطلق الطلقة الأولى؟ ليُدان ويُعاقَب كبعيرٍ شارد من قافلة خطاب الحرب: يُعاقَب ويتم إرجاعُهُ لقطيعِهِ وكأننا يا زيد لا رحنا ولا جئنا، وذلك من مكر الخطاب وحِيَلِهِ الذي يتقاصر عن فهم حرب أبريل 2023 كحَتمِ ضرورة أوجدها حراك الديسمبريين وشعارهم: العسكر للثكنات والجنجويد ينحل.

فأضحى البيان بياناً بنقيصتين: لا هو بيان بِنَعلَيْ البيان السياسي الذي يقولُ ويُفصِح ويبين ولا هو كتابة يُجمِّلها ما تسكت عنه وتشي به من غير أن تقوله مما يؤرِّخ للخطوِ فوق عتبةٍ ودَرَجٍ يقود إلى فضاءٍ في الأدب السياسي غير مسبوق: فراغ القول.

هكذا تكون الخسارة خسارتين ويصبح قول الحقيقة مردوفاً في سرج خطيئة التخوين.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 3.8 / 5. Total : 6

كن أول من يقيم هذا المقال