
الحرب الأهلية (في) السودان عتبة دخول للحرب الأهلية السودانية: هل استكمل الإله “جانيوس” غزْلَ عباءة ربوبيته؟
صلاح الزين
في مقال منشور سابقاً استلفنا مقولة لماركس تقول بأن التاريخ يتقدم من جانبه المتعفن. فخطاب حرب أبريل “الجانيوسي” ذو الرأسين “الفلولي” و”الجنجويدي” هو مِن سلالة الخطاب العربسلامي منذ ميلاده خلال حقبة الدولة الكولونيالية، دولة ما بعد الاستقلال وما قبل ذلك حتى صعوده إلى متن السلطة في عام 1989.
في مسيرته المتعرجة تلك في دَرَج صعوده امتلك هذا الخطاب قدراً من السيولة والمرواغة مما أعانه على غرس رايته فوق تلة سلطته الموسومة ب”ثورة الإنقاذ” في عام 1989.
مِن قبل ومِن بعد، امتلك الخطاب أجنحة بصنارات تصطاد من يرفد بنيته بالفتوة وتُقصي، حد الاغتيال والإفناء، مَن يقف في درج صعوده. فتعددت الحروب، حروبه، في مناطق عدة في البلاد: جنوباً وغرباً وشرقاً حتى انفصال الجنوب في 2011.
ولأنه خطابٌ يسعى نحو نقاءٍ عرقيٍّ وديني كانت بوابته لذلك الصفاء المنشود، ككل خطاب ينمو في بيئة يميزها التعدد الثقافي والديني، أنْ سعى لاستحداث تمفصلاتٍ إثنيةٍ واقتصادية، فيما يمكن وصفه بأثننة توزيع الموارد، لتوسيع جلباب الخطاب، خطابه، ورفده بروافع طبقية وسياسية وتوسيع فضاء الخطاب وحيزه.
اشتغلت منظومته التمفصلية تلك بمشارط تزن مديات الصفاء الإثني والديني في عروق وأوردة من يَرى فيهم حلفاءً وكتفاً يسند حمولته. فكان انفصال الجنوب، ضمن ملابسات أخرى، هو هو بَتْر ذلك الكتف الذي يُقعِد خطابه ويُوهِن قدماه.
ولِما له من استراتيجيات خطابيه شرع في استلال واستحداث كل ما من شأنه أن يرفد جناحَيْ الخطاب في حربه ضد ما يهدد بنية هيمنته.
تعددت الحروب والنزاعات ومعها تعددت استراتيجيات الخطاب. وقفزت الجغرافية كفضاء يفضي إلى الصفاء، صفاء الخطاب، من كل ما يعكر صفوه ونقاء سيرورته. فكانت دار فور، بما عُرفت به كساحةِ حربٍ مطلبية لعدة حركات، الموشور الذي وَهبَ ذاك الخطاب تعدد الشعاع والرؤية حتى ينفذ إلى كمال تمامه.
وللخطاب فِطانة وبصيرة. ببصيرته وعينِهِ “اليمامية” تلك رأى في دار فور مصفاةً تغسل الخطاب، خطابه، من ما علق به من شوائب. فلجأ، ضمن استراتيجيات أخرى، إلى مهارة الاستحداث والاستزراع. فكان ميلاد “الجنجويد”، بمعية ميلادات أخرى هنا وهناك، لتكون رافعة تسند الطرف القصي، جغرافياً، من بنية الخطاب حتى لا ينشغل متنه عن حروبات موازية ولازمة: في بقية مدن البلاد في وسطه وشماله وشرقه.
هكذا انتثرت حرب الخطاب إلى حروبات متناسلة يوحدها النوع وتتغاير في الكم بتغاير الخصم.
وبطبيعة بنية الخطاب البنيوية وقدراته الاستقطابية فقد تم إذابة الضلع الجديد “الجنجويد” في بِركة ماء الخطاب حد تحريف اسمه، المرقون في شهادة ميلاده، من “الجنجويد” إلى “قوات الدعم السريع” وما استتبع ذلك من إبدال آخر لا يخل بأناقة السيميولوجيا وبلاغة بوطيقيا الأسماء وشِعْريتها: فحَلّ “حمايتي” بديلاً ل”حميدتي”، سيان، فأسخف ما نحمله الأسماء!!
أَربكَ الديسمبريون بنية الخطاب، خطاب حرب أبريل 2023، وانتقالاته بين عدة استراتيجيات خطابية وفق ما تقتضي ضرورة خطو الخطاب. فكانت الحرب حتم ضرورة لتفتح منفذاً في الانسداد البنيوي للخطاب “الجانيوسي” ذو الرأسين: “الفلولي” وتوأمه “الجنجويدي”.
ولأن “القرش الأبيض لليوم الأسود” كما توصي حكمة الأهالي، فقد استعان الرأس “الفلولي” بمهارات نصفه الآخر “الجنجويدي” لحشر الوسط، وسط البلاد، في ذات القاليري الذي به أحال دار فور إلى دار فور أخرى بفرشاة وألوان مغايرة لتنتقل الحرب من “الهناك” إلى “الهنا” من غير أن تنكسر المرايا ومصفوفة الألوان: إحلالاً وتهجيراً، سطواً وتغنيماً، قتلاً واغتصاباً، تهجيراً وتنزيحاً.
وأصبح الرأس “الجنجويدي” كضلعٍ مستحدثٍ واستطالةٍ تافهة مسلولة من أضلاع بنية الخطاب العربسلامي، أقول أصبح ذاك الجانب المتعفن من بنية الخطاب الذي به يكون خَطْو ذات الخطاب وانتقالاته إلى أن تقضي سلطة الخطاب أمراً كان مفعولا.
ما يميز خطاب حرب أبريل 2023، وما قبل ذلك، اِنسراب عروق شجرة نَسَبِهِ في تربة غابات إقليمية ودولية لاستحالة أن يكون الخطاب بمعزل عنها. فرأس المال المُعولَم لا وطنَ له وتَسِعُ عباءته كل شاردة وواردة من كتابةِ قصيدة مروراً باستحداث قوى اجتماعية بمصالح تُرْجِع ذات الصدى وصولاً لعولمة الثقافة وتشابه الشهيات والنزق.
كما لا حدود جغرافية متفقاً عليها لحركة رأس المال المعولم، إقليمياً ودولياً، كذلك مصالح القوى الاجتماعية المحلية وتمفصلاتها العبر حدودية كطرف وهامش لرأس المال وتَعولُمِهِ الكوني. أفضى هذا التمفصل وما له من مآلات، في ظل ظروف عالمية وإقليمية بالغة التعقيد، إلى أن تكون حرب أبريل حرباً أهلية (في) السودان لا حرب أهلية سودانية. حرب مُستزرَعة implanted تقاطعت وتشابكت فيها دروب ومصالح الخطاب العربسلامي، خطاب الحرب، مع نظراء إقليميين ودوليين.
هذا لا يحُول دون انزلاق تلك الحرب من حرب أهلية (في) السودان إلى حرب أهلية سودانية وفق ما تقتضي ضرورات الخطاب ومصالحه الفوق حدودية.
وما يحدث من مجزرة في شرق الجزيرة وما ستؤول إليه الأحداث ستكون مدعاة للتفكر والتأمل فيما إذا كان الإله “جانيوس” برأسَيْهِ “الفلولي” و”الجنجويدي” قد أكمل غزل عباءة ربوبيته وخَطَا بالخطاب وحربه من حرب أهلية في السودان نحو عتبة حرب أهلية سودانية!!!
التعليقات مغلقة.
ما يميز خطاب حرب أبريل 2023، وما قبل ذلك، اِنسراب عروق شجرة نَسَبِهِ في تربة غابات إقليمية ودولية لاستحالة أن يكون الخطاب بمعزل عنها. فرأس المال المُعولَم لا وطنَ له وتَسِعُ عباءته كل شاردة وواردة من كتابةِ قصيدة مروراً باستحداث قوى اجتماعية بمصالح تُرْجِع ذات الصدى وصولاً لعولمة الثقافة وتشابه الشهيات
في تقديم الفقرة لخصت المقال
“الهناك” إلى “الهنا ,
الصفاء، صفاء الخطاب
الخطاب، خطابه