‫الرئيسية‬ مقالات هل يشي سقوط أحد رأسَيْ الخطاب بموت الإله “جانيوس” ، أي الخطاب ؟!.. في ورطة خطاب حرب أبريل 2023
مقالات - 18 أكتوبر 2024, 2:05

هل يشي سقوط أحد رأسَيْ الخطاب بموت الإله “جانيوس” ، أي الخطاب ؟!.. في ورطة خطاب حرب أبريل 2023

 

صلاح الزين

قلنا في مقال سابق بعنوان (حرب أبريل 2023: الخطاب يتقدم من جانبه المتعفن): “لماركس قولٌ يقول فيه بأن التاريخ يتقدم من جانبه المتعفِّن.. يصحُّ ذلك على الخطاب كبنيةٍ تتساوق مستوياتها وتتصادَى بما يحفظ للخطاب اكتمال نضجه البنيوي، حتى في نقصانه، كتمثُّلاتٍ ناهضة من فوق حواملٍ طبقية واقتصادية وفكرية ليس بالضرورة أن تكون من بذرةِ ذات الطين والمنشأ بقدر أهمية كونها أحد أفرع شجرة تلك البذرة التي تتكامل وتَهِبُ الشجرة ما يميزها كشجرة.. كان ميلاد “الجنجويد” ميلاداً يشي بتعفُّن خطاب “الفلول”، خطاب الإسلام السياسي، في ارتقائه نحو فناءٍ مُتضَمَنٍ في بنيةِ سيرورةِ ذات الخطاب. فأوجَدَ الخطابُ واستَحدثَ “الجنجويد” كرافعةٍ خطابية طرفِيَّة تصدُّ تعفُّن الخطاب وزحفِهِ نحو موت مُحدِق به ومحتوم” (انتهى).

حرب أبريل حربٌ موشورية تجميعية، جمعت الحروب السابقة التي تسوَّرت كل حيطان ما سُمي ب”اتفاقية سلام” بين السلطة ومَن ينازعها الحكم منذ ما قبل الاستقلال. تجمعت تلك الحروبات والنزاعات ورسى قاربها عند شاطيء حرب أبريل 2023 وانتقاها خطابُ حرب أبريل كزَيٍّ موحَدٍ يخفي اختلاف ألوانه: تجميع وحدات الخطاب المسيطر في بنيةٍ خطابيةٍ تستعين، ككل خطابٍ ساعٍ للسيطرة، بخطابات أخرى نسيَتَها أو حتى يمكن استحداثُها: الجنجويد مثالاً. بمعني إدراج الخطاب المُستحدَث في بنية الخطاب الأصل كأحد مستويات بنية الخطاب بروافعه الطبقية والسياسية والفكرية.

استطراداً، كان خطاب حرب أبريل 2023، كما أسميته في كتابات سابقة: الخطاب “الجانيوسي” ذو الرأسين وذات الجسد والقوام. كلٌ يستلزم الآخر وبه تكون كينونته البنيوية بتصالُحِ ما يبدو بينهما من تناقضات تتصف بسيولةٍ في طبيعة تكوينها تسمح بتبادلات وانتقالات بين ما هو أساسي وثانوي في تساوقِ وتناغمِ مصالحهما.

استَحدَثَ الخطابُ العربسلامي ما أسماه الدارفوريين ب”الجنجويد” devils on the horseback بينما أسماه نظام الإنقاذ ب”الدعم السريع”. وبين التسميتين هو هو ما بين النية في تعريفها الديني والواقع في إحالاته التي لا تقبل التأويل، وإنْ قَبِلَت، يكون القبول أحد حِيَلِ الخطاب ومكرِهِ ليقول قوله.

كان المٌستحدَث، أي “الجنجويد” بمهاراتٍ عجِزَ عنها الخطاب العربسلامي المسيطر. وما كان ذلك عجزاً بنيوياً يوسِمُهُ بقدر ما أنه حيلةُ الخطاب، ككل خطاب، في أن يستنبت يداً ولساناً بِهُما يُخفي ما تفعله يدُهُ ويقولُهُ لسانه: فالخطاب، ككل خطاب، به قَدْرٌ من الحياء والخفر!! ما يخشى قوله في رابعة النهار يمكن قولُهُ والشمسُ تحجل نحو مَغيبٍ لها. فالفصاحة، فصاحة الخطاب، جرسُ إنذارِ في السر والعلن.

اعتلى “الجنجويد” سَرجَ دابةِ نِيّةِ الخطاب وأردفوه معهم فكانوا يدُهُ التي تبطش وعينُهُ التي ترى: قتلٌ وتنزيحٌ وسلبٌ وتغنيم، سطوٌ على الحواكير متبوعٌ بإحلالٍ بشري الخ به أضحى الدارفوريون شعباً نازحاً ضاقت به المعسكرات ومنظمات الإغاثة لما يزيد عن العشرين عاماً لينشأ فيها جيل مُنبَتٌ عما كان يمكن أن ينشأ عليه من اتساقٍ وكينونة.

لا حدود لصبوات الخطاب العربسلامي، مثل أي خطاب، في التمدد والتسَيُّد. مرتفقاً ب”جنجويده” كأحد مستويات بنية خطابه، فجَرَّ الخطاب حربَهُ، حرب أبريل 2023. حربٌ اقتضتها وحتمتها يدُ الضرورة التاريخية المحمولة على ظهر تناقضات ذات الخطاب، تناقضاتٍ بنيويةٍ فيهِ ولازِمةٍ له، ليكون، حتى أضحى السؤال عن مَن أَطلق الطلقة الأولى ضرباً من غباء الفطرة.

فالحرب كانت كامنة هناك في بنيةِ نسيجِ الخطاب ترمق بوَجَلٍ ما يقول به الديسمبريون: العسكر للثكنات والجنجويد ينحل، ترعى شؤونها وتتجمل لتخطو بثقة ويقين. وشدَّت الحرب رِحالَها من “الهناك” إلى “الهنا”. بصحبتها ارتقى “الجنجويد” إلى مصاف ما جُبِلوا عليه منذ استيلادهم ومنَحَهُم اسماً، كلون البشرة، لا فكاك لهم من دلالته ومبناه.

أتوا بأطوالٍ مساطِرِهِم وقياساتهم وما فُطِروا عليه من حربهم “الهناك” في دارفور إلى حربهم “الهنا”، تحديداً في الخرطوم وولاية الجزيرة، بِزَيٍّ ولسانٍ يَنطِقُ بمحاربة “الفلول” وإرساء قيم العدالة والديمقراطية. وما دَروا، وكيف لهم ذلك، أنهم فقط استطالةٌ تعيسة وتخثُّر أحد مستويات بنية الخطاب العربسلامي في سعيه للتقدم من جانبه المتعفن وإن حاربوه!! فالسِرِّي في التاريخ سرٌ يموت به ويَترُك للآخرين فضيلة استكناهه!!

وبمساطر الخطاب أتمُّوا، مثلما فعلوا “هناك” ما تقتضيه ضرورة سيرورة الخطاب “هنا”: تنزيحٌ وإحلالٌ، سلبٌ وتغنيمٌ، إذلالٌ واغتصاب، وكأنهم يحملون ما في جوف المرايا “الهناك” ليُطِلّ من جوفها ذات الألبوم واللوحات!!

اكتنز فضاء الميديا في الأسبوع الأخير بأخبار تقول بتقدم الجيش وتقهقر الجنجويد مما يستدعي المساءلة حول كيفية انتصار أحد الرأسين على الآخر والاثنان مغروزان في جسد واحد، جسد “جانيوس” بكل ربوبيته وسطوة قداسته!! إحدى قراءتين: إما تكذيب الأسطورة الإغريقيّة، أو أن يكون الخطاب العربسلامي قد خَلعَ من ضِلعهِ ما تعفَّنَ منه ليخطو نحو اكتمال قَمرِ تسيُّدِهِ وكمالِه.

القراءة الأولى تُغفِلُ تطورَ علوم البشرية والخطاب من فوق ظهر سلحفاة الأسطورة والخيال فتصيبها أنيميات العقل وما هو معقول فينمحق تاريخ البشرية، والثانية بها ما يحمل على الاعتقاد بقدرة الخطاب ذو الرأسين أن يَجُزَّ أحد رأسَيْهِ مع بقاء ربوبية “جانيوس” وطهارة قداسته من غير نقصان.

الأسطورة، أياً كانت، دوماً يحاورها التاريخ حول ما تخفيه باحاتُها الخلفية من مكنوناتٍ بها يزيح مخيلتها من ظلام قبوها وسديم السماء نحو شمسِ معاشِ العباد ورهقِ الجمال والكبرياء. ويظل السؤال: كيف للخطاب ذو الرأسين أن يفقد أحد رأسيه ليمد “جانيوس” جسده فوق بساط ربوبيته برأس واحد؟!

مرة أخرى، إنه مكر الخطاب وحيَلُهُ التي لا تعدَمها كِنانَتُهُ ولا سطوة الأسطورة عندما يتملكها الخطاب، أي خطاب، ويعجنها بِطينِهِ ويُسقيها من زلال بركته وإن غفى، لحين، دويُّ شعار: “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل”.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 5

كن أول من يقيم هذا المقال

تعليق واحد

  1. مقال متسق جدا ويحلل الخطاب العربوسلاموي بعمق من يقرأ التاريخ ليفهم الحاضر. التحية لكاتب المقال ولغته الرفيعة

‫التعليقات مغلقة.‬