
براءة اللوحة من طيش الرسام.. قراءة المسكوت عنه في خطاب “حميدتي” الأخير
صلاح الزين
تبرز أهمية تحليل خطاب “حميدتي” لا على مستوى الملفوظ utterance وإنما ما يُخبُّؤه الملفوظ المنسوج من اللغة، ما لم تقله اللغة حتى تقول قولَ الخطاب وإن إيحاءً. فلغة الخطاب لا فكاك لها من بنية الخطاب وما يود قوله. فسكوت القول عن ما يود قوله هو قولٌ آخر وإنْ بَتَرَ لسانَهُ، المسكوت عنه.
الخطاب يقول عندما لا يقول، ولا يقول عندما يقول. ما سكت عنه خطاب “حميدتي” هو هو ذات ما قاله.
بلسانٍ عربيٍّ مبين قال “حميدتي” باتهام مصر بالتدخل في حرب أبريل 2023 لصالح جيش الحكومة “الفلول”.
وفي غمرة رذاذ اتهامه ذاك انزلق من ذاكرته أنه الرأس الآخر لذات خطاب تلك الحرب: الخطاب “الجانوسي” ذو الرأسين، رأس “فلولي” وآخر “جنجويدي”. أَنجبَ الأول اِبناً فأصبح الابن بكتفٍ لا يقل علُّوهُ عن كتف الوالد ليترافقا، حذو الحافر بالحافر، أينما تقتضيه ضرورة بنية الخطاب في صعوده درج السيطرة على المشهد السياسي.
بالنتيجة، إنْ صح الاتهام، فقد غَرسَ الرأس “الجنجويدي” خنجراً في خاصرة الرأس “الفلولي”. ولا ضير في ذلك لما للخطاب “الجانيوسي” ذو الرأسين، أيْ خطاب حرب أبريل 2023، من مقدرة الإله “جانيوس” أن يكون إلهاً ولو برأسٍ واحدٍ إذ الآلهة غير مجبولة على فقدان سطوتها حتى تسود!! وللآلهة في نفسها شؤون.
ما يميز الرأس “الفلولي” أنه ومنذ بداية صعوده مقطورة قطار الإسلام السياسي لخطاب الدولة الكولونيالية، دولة ما بعد الاستقلال، post colonial state، الخطاب العربسلامي، ما كان له، لعجزٍ بنيويٍّ ملازمٍ له، الانفكاك من تمفصلات خارجية، إقليمية ودولية، بها تنسنِدُ رافعاتُه الطبقية والسياسية حتى صعوده لسدة الدولة عام 1989.
وللمفارقة، كان ذاك الصعود هُوَ هُوَ تدحرج ذات الخطاب العربسلامي نحو سقوطه على يد الديسمبريين بعد ربع قرن ونيِّف.
في تدحرجه المحتوم نحو دَرْكِهِ ذاك، وكما ذكرنا في كتابات سابقة، اِستلَّ من ضِلعهِ ما يَصدّ سقوطه ويوسِّع له في المكان والسيطرة. فكان ميلاد “الجنجويد”، ضمن ميلادات أخرى، لرتق فتوقات الخطاب، الخطاب العربسلامي. ارتفق بمن ارتفق وألحقها بمستويات بنية خطابه لتكون أداةً لهوى الخطاب وسطوته. فأنجز “الجنجويد” المناط بهم إنجازه منذ العام 2003 وصولاً لحرب أبريل في 2023 بعد أن وسَّع لهم في المكان والسيطرة الاقتصادية بقوانين ومراسيم رئاسية قبل انتفاضة الديسمبريين وخلال حكومة الفترة الانتقالية حتى انقلاب أكتوبر 2021 وما بعده.
منذئذ كان الميلاد الثاني للمولود، “الجنجويد”. فقد شب عن الطوق ورفضَ وضعَهُ كمجرد مردوفٍ في سرج الخطاب العربسلامي والمكوث عند وضعية تنحط به لمجرد مستوى من مستويات الخطاب ومجرد رافعة تُستدْعَى summon عند الضرورة، وبذلك كان تساوي كتفَي بنية الخطاب العربسلامي واندغام أحدهما في الآخر واستحالة كينونتهما منفصلين في وجه الديسمبريين كوافدِين جُدد على مائدة الخطاب السياسي السوداني للدولة الكولونيالية، دولة ما بعد الاستقلال، وحقِّهم في الجلوس حول تلك المائدة وتناوُلْ ذات الطعام والمَرَق إنْ لم يكونوا سادة الطلب ومطالعة قائمة الطعام!!
ولأن روافع الخطاب لا تغفل ضرورةَ وحدةِ قوائمها لتحمي الخطاب، الخطاب العربسلامي، من مغبة السقوط كان لا بد مما ليس منه بد: انفجار حرب أبريل 2023 كحتم ضرورة تاريخيّة اليد العليا فيها لما يود قوله التاريخ وضروراته حتى انطلت مقاربة الحرب على المحللين بالسؤال عمن أطلّق الطلقة الأولى!! وسقط عن عقل مقارباتهم تلك السيرورة المتأنية لبنية الخطاب المسيطِر وما صحبها من استقطابات محلية وإقليمية ودولية.
ومكرُ الخطاب، كأي خطاب آخر، وحِيَلُهُ واستراتيجياتُهُ لا حدود لها. بالنتيجة، انفصل الرأسين وتناقَرا فأصبح للرأس “الفلولي” لساناً لا يقول بقول اللسان “الجنجويدي”. فكان اختلاف الملفوظ فقط لا اختلاف قول بنية الخطاب، خطاب حرب أبريل، في اتحاد الرأسين للفتك بالسودان وشعوبه. ولكلاهما امتدادات عبر حدودية، إقليمية ودولية، تسند من تشاء وتسقط من تشاء.
لم ولن يخرج خطاب “حميدتي” عن هذه الترسيمة schema. فقد كَسرَ المرآة، مرآة خطاب حرب أبريل، من غير أن يكون بدِربةٍ وفطنة، وأنّى له ذلك، للخروج من جوف مرآة خطابها. فكان الخطاب، خطابه، وتصويته وما يُزوِّقه ويَتوسّله من وَجدٍ ووجدان، خلل الشاشات المضيئة والمعتمة، إلا صدىً باهتاً وبائساً يرجعه ويصاديه الرأس “الفلولي” الآخر بالقول: أنت لست سوى استطالة تافهة لإنجاز ما أُوكِل إليك إنجازه لتظل مجرد زائدة تعين الرأس الآخر لـ”جانيوس” لما يفترض إنجازه برأسين!!
تنازَلَ الخطاب، خطاب حرب أبريل ذو الرأسين، للرأس “الجنجويدي”، تنازَلَ له عن شرف إغلاق قوس الخطاب، خطاب حرب أبريل، ليتفرغ لما يلي من شؤون ما يبدو له انتصاراً وما هو بانتصار !!
بكلمة، ما لم يقله حميدتي في خطابه: مثلما لكمو “مساعد ياي” لنا كذلك مثله وقد شهدت به حكومة العالم، الأمم المتحدة، ورافعاتها الأوربية ومنظماتها الدولية، وما في حد أحسن من حد!!
وما يبدو لكم مِن انتصار هو نصرٌ تدينون به لنا ونُثاب عليه إنْ تنحى وتنازل الديسمبريون عن شعارهم: العسكر للثكنات والجنجويد ينحل.
التعليقات مغلقة.
تنطع صلاح الزين وتشدق، آملا في تصنيف مقاله بخيم “كتبه مثقف”، فاجتهد باقحاق مفردات وحشية ومرهقة.. مه
تنطع صلاح الزين وتشدق، آملا في تصنيف مقاله بختم “كتبه مثقف”، فاجتهد باقحام مفردات وحشية ومرهقة.. مه