حرب أبريل 2023: الخطاب يتقدم من جانبه المتعفن
صلاح الزين
ينشغل الخطاب، أي خطاب، بكيفية خطوِهِ فوق وبين ما يجاوره من خطابات، توازياً أو تقاطعاً أو نفياً. فالخطاب في سيرورته البنيوية يستضيف الماثل من الخطابات التي تجاوِرُهُ ما يُقوِّي ساقَيْهِ للخطو فوق ما يُحتمَل من تعثرات تعوق تَسيُّدَهُ وإلباسَهُ عباءة البداهة والقبول.
إنها حِيَلُ الخطابِ ومَكرِهِ، المعلن منها والمستتر. وفي حيله ومكايده تلك يمكن أن يرتد عما فطرته عليه طفولته الخطابية وتنشئة الوالدين من غير أن يكون عاقاً أو خارجاً عن مألوفِ ما تَواضَعَ عليه في سِنِي طفولته وصباه. تَغتني بنيتُهُ ومستوياتها بالإدماج والنبذ في ذات الآن accommodating and ostracising.
إنها حروبات الخطاب في حربه ضد ما يهدد بقاءه وديمومته. يُشهِر كل أسلحته، الدنيوي منها والسماوي، بما يحقق مقتضيات بنيته وتبدياتها في حربها التاريخية ضد ما يمكث قربه من خطابات مجاورة أو بعيدة، إنْ تاريخياً أو جغرافياً، في المتن أو الهامش والأطراف. وبِجِبِلَّتهِ الزمكانية تلك ومقتضياتها تكتسب بنية الخطاب شكلاً من الاتساق تُصبَغُ عليها بداهةُ العادة والفكر اليومي وتبدهاته.
وحرب الخامس عشر من أبريل 2023 لا تخرج عن مألوفات واستراتيجيات الخطاب، خطابها. فهي حرب لا يُخفِي خطابُها حربَهُ ضد كل ما قال ويقول به الديسمبريون في انتفاضتهم وصبوات أشواقهم وشعاراتهم: حرية سلام وعدالة؛ العسكر للثكنات والجنجويد ينحل.
باكراً ومنذ سيطرة الإسلاميين على الحكم في عام 1989، وما قبله، شرعوا في التأسيس لخطابٍ به يتم، في ذات الآن، محو ما سبقه من خطابات سابقة ومجاورة، إنْ بتجريفها أو إلحاقها ببنيةِ خطابِهم من غير السهو عن استحداث كل ما مِن شأنه أن يسهم في تمدده وانتقالاته، اقتصادياً وفكرياً وسياسياً. فكان، ضمن ميلادات أخرى، ميلادُ “الجنجويد” كرافعة عسكرية تَهِبُ ساقَيْ الخطاب، خطابهم، فتوةً تعينه على الصعود في دَرَج الخطاب المنذور لحتفه على يد الديسمبريين، وإنْ لم يَرْقَ صعود الخطاب نحو ذاك الحتف والفناء.
وحتى يُقبَر ذاك النزوع الديسمبري كان لا بد مما ليس منه بد: أن ينتقل الخطاب نحو استراتيجية أخرى قوامُها اندلاع الحرب كحرب مؤجلة تسوَّرَتْ كل جدران خطابات الدولة الكولونيالية، دولة ما بعد الاستقلال، ليدفَعُ بها حتمُ الضرورة إلى انفجارها واستعلان سفورها في الخامس عشر من أبريل 2023 كحربٍ قوامُها خطابٌ “جانوسيٍّ” برأسين: “جنجويد” و”فلول” كتوأمٍ يرضعان من ذات الحليب: لكل شطره بما تجود به ذات الأم.
استجلب الرأس “الفلولي” نصفه الآخر “الجنجويدي”، كرافعةٍ اُستُحدِثت في أعوام 2003، وما بعدها، كأداةٍ للقيام بما عجز عنه الأول، “الفلولي”، في حربه ضد حروبات الهامش “الهُناك”، بعد أن تم إدماجه في بنية خطابه وتذويبه في نسيج رافعاته الاقتصادية والعسكرية ليكون سنده في حربه “الهُنا” والتي اكتمل قوسها كحرب شاملة في حرب أبريل 2023.
والحرب دوماً مدبوغةٌ بحنينٍ لحربٍ مجاورة لتكُونَ ماءً يُغرِقُ السراب و يُكَذِّبُ وعْدَهُ بالسقيا والارتواء!!
لماركس قولٌ يقول فيه بأن “التاريخ يتقدم من جانبه المتعفِّن”. يصحُّ ذلك على الخطاب كبنيةٍ تتساوق مستوياتها وتتصادَى بما يحفظ للخطاب اكتمال نضجه البنيوي، حتى في نقصانه، كتمثُّلاتٍ ناهضة من فوق حواملٍ طبقية واقتصادية وفكرية ليس بالضرورة أن تكون من بذرةِ ذات الطين والمنشأ بقدر أهمية كونها أحد أفرع شجرة تلك البذرة التي تتكامل وتَهِبُ الشجرة ما يميزها كشجرة.
كان ميلاد “الجنجويد” ميلاداً يشي بتعفُّن خطاب “الفلول”، خطاب الإسلام السياسي، في ارتقائه نحو فناءٍ مُتضَمَنٍ في بنيةِ سيرورةِ ذات الخطاب. فأوجَدَ الخطابُ واستحدث “الجنجويد” كرافعة خطابية طرفِيَّة تصدُّ تعفُّن الخطاب وزحفِهِ نحو موت مُحدِق به ومحتوم.
بكلام آخر، تهافَتَ الخطابُ العربسلامي في انتقالاته وتحوراته المتعددة فأنجَبَ لنفسه طرفاً يقيهِ الانمحاق واحتمالات المحو والفناء. فاللخطاب، أيِ خطاب، استراتيجياتٍ تُأجِّل انمساخ الخطاب وزواله لحين، وما كان الخطاب العربسلامي استثناءً، ومِن ضِلعِه أنجَبَ رأسه الآخر “الجنجويد”، به يكتمل ويتجمًّل، بعد غزله في بنيته الاقتصاديه والساسية والعسكرية لينطقا بذات القول الموزع على لسانَيْن: “جنجويدي” و”فلولي” بذات الإبانة والإفصاح التي ما حَرَمت “جانيوس” ذو الرأسين أن يكون إلهاً واحداً أحدا !!
في تواطؤٍ غير معلن، كإحدى سمات اشتغالات خطاب حرب أبريل في تكامل مستوياته البنيوية وتساوقها، رمى رأس الخطاب “الفلولي” الحَبلَ على قارب رأسه المُكمِّل
” الجنجويدي” لينجز ما أنجزه في حروبه في الأطراف الدارفورية من تنزيحٍ وإحلالٍ لتكتمل اللوحة وإطارها فيما يقوم به، حالياً، “الجنجويد” في بقاع أخرى من البلاد، وتحديداً ولاية الجزيرة، من طوفانِ انتهاكاتٍ وتنزيحٍ مسنودٍ بترويعٍ يُكمِلُهُ نهبٌ وتجويعٌ شملَ كل حلّال وقرى وحواضر الولاية.
والمثير للانتباه تقاصُر وتردد السلطات العسكرية في الدفاع عن السكان وممتلكاتهم بل وانسحاب الجيوش أمام زحف “الجنجويد” فيما يبدو أنه اتفاق غير معلن !!
ولكن يبقى المعلن والجلي في إضماره هو تساوق الخطاب برأسه “الفلولي” والآخر “الجنجويدي” حتى يكون “جانيوس” برأسين وإرادة واحدة تضعه في مصاف الآلهة، كما الخطاب ذو الرأسين وربوبيته لحربه، حرب أبريل 2023.
حاصر حصارك لا مفر وإذا أراد شعباً الحياه فلا بد أن يستجيب القدر وفقا لهذا المنهج التأريخي الذي قام بها الفريقين المتقاطعين في المصالح المشتركة بين الطرفين المتحاربين والمتفقين في سبيل تحقيق الأهداف المنشودة في السيطرة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وذلك علي أساس الأهليات والانتماءات الضيقة التي فقدت مصداقيتها بعد تجربة الدولة الانقلابية المتأسلمة التي أدت إلى انهيار الدولة والعقد الاجتماعي الذي كان رغم ضعفة إلا أنه لم يبق سوى القوة العسكرية التي اتخذت الحرب كمسوق استراتيجي جديد في ظل نظام حكم شمولي قوي لم يسبق له مثيل منذ أن أصبح ووجود الدولة في السودان