
حرب الخرطوم.. الحرب بين ارتزاقيْن (عام مضى و آخر أطل )
صلاح الزين
والارتزاقُ هو الصفحة المنزوعة من روزنامة أُطروحة الاقتصاد السياسي وفصاحة التاريخ، الأُطروحة الناقصة حول سرقة كحل العين.
شقيقُ الحرب بحليب ثدي الأم الأيمن المعطوب أيسَرُهُ بجفافِ الغيم والعاطفة
وكأي غُرزةٍ منزوعةٍ من ثوب الحياة تكون عورةُ ذاك الثوب دربًا يُرشد إلى المخفي في معلوم العورة: واقعًا ومعنىً. الأول سقالة الثاني والأخير تشفيف الأول لإكسابِهِ روحًا بسرمديةِ شبحٍ عصيٍّ على الموت والزوال وإنْ تبدلت الرافعةُ وخَلَعت زِيَّها. ومن ثم يكون الارتزاق تجملًا بالمستحيل وخسارة الماثل والهناك
وبهذا الانعطاب يضيقُ الدربُ فيكون للارتزاق عدة أنساب: في ماضٍ لم يمضِ وحاضرٍ لم يحضر بسببٍ من ذاك الماضي الذي لم يمضِ قيد أنملة كجبلٍ غيرِ معنيٍّ بعراك الأنواء ونقص المواسم
وفي حرب الخرطوم أوقَدَ المُرتزَقان حربَهُما القادمة مِن صحوِ قيلولةِ حروباتٍ محتومة، محتومة كموتٍ أو صافرةِ ضرورةٍ تُسمِعُ مَن به صممُ. وحربُهُما هي هي حربُ توأمين سياميين يرتفقان ذات الرحم وتناسلا من ذات النطفةِ المرويةِ من ذات المشيمة. ينطقان بذات القول ويختلفان في أبجدية ما يقولان ولحن النشيد. يختلفان في تشابههما ويتشابهان في أيلولة المصائر. فكلاهما بجيوش وعتاد: ماضٍ لم يمضِ وحاضرٍ بحَوَلٍ بفعلِ مكوث الماضي المستقر، الذي لا يمضي كغصةِ موتِ أُمِك
المرتزَق الأول معلقٌ في أستار سردياتِ طردِ آدم وحواء من أبدِ نعيم الجنة وقذفِهِما في جحيم الحياة. له سماوات تعج بديانات هبطت من السماء وأخرى صعدت نحوه: إلياذاتٌ وأوديساتٌ محشورةٌ في حذاء هوميروس وفنجانِ قهوةِ كاتبْ (لاعب النرد الأخير).
يُدمِنُ ذاك المرتزَق طعمَ نبيذِ الماضي الذي يرى حاضرَهُ في ما مضى ويستعلنُ الحاضرَ بضآلةِ واقعيةِ جناحِ عصفورٍ يحك أطراف غيمة
يحضُرُ النَصُّ من ماضٍ له ليُشيِّدَ حاضرًا لا فكاك له من نَصٍّ لا يمضي ماضيهُ فيكونُ الحاضرُ نصًا محفوفًا بما للماضي من قداسة المعطف والإحالة.
وبذلك يُردَفُ الحاضرُ في سرجِ حقولِ خيولِ الماضي بعلَفِها وسُقْيتِها ويُهَبُ حريةُ الركضِ في بَرِيَّةِ النصوص خارج ما هو آنٍ ومنظور
في مقابلِ مرتزَقِ الماضي ينهضُ مرتزَقُ الحاضر والذي هو هو ذات المرتزَق وإنْ اختلف طعمُ النبيذ المردوم في قبو الماضي الذي لا يغادر.
طعمُ النبيذ عند أحدِهِما هو ذاتُ الطعمِ منذ أن حلَّ النص واقعًا لا حاضرَ له. بينما طعمُ ولونُ النبيذ عند الثاني، الثاني المطرود من بستان الماضي والمقذوف نحو حاضرٍ لم يحضر، ينبَهِمُ الطعمُ ويصابُ اللونُ بالعمى
توأمان سياميان ينتظران اختلافَهُما وتمايزَهُما في تدبيج خطابِ الغرامِ الأوَّلِ ورائحة المعشوق !والارتزاقُ عند كِلَيْهِما لهُ سعةٌ في الأسواق وبائعين ومشترين. لهما كل بقالات الماضي المحشوَّة بنصوصٍ تخلو من إشعارٍ بإنتهاء الصلاحية، فتسطو على المستقبل الذي لا حاضرَ له ليكون مستقبلًا يُنتظَر. وفي هذه الملجة يلتقي البائعون والمشترون ويباعُ الحاضرُ في أسواق الماضي وتستوردُ بضاعة الأخير لتباع في الحاضر
وبين المرتزَقَيْن ما بين مساخة الجمال المجروف بأنيميا الخيال ولغة لا تشي إذ تقول !!
المرتزَقُ الأول (المرتزقُ النَصِّي) يتغذى من نُسْغِ ذاكرةٍ نَصّيةٍ لا مقابلَ لها في ما حوله من وجودٍ سوى ماء النصوص التي تسنِدُ قاربَهُ الرغبوي المدفوع بأشباحٍ تَمخُرُ ماءَ عشرات القرون لترسو عند شاطيء قُدَّ من سراب. عكس المرتزَقِ الآخر الذي يَقصِفُكَ برصاصةٍ بلا خيال، يَقتُلُكَ هذا برصاصِ الحبرِ والأبجدية
قبالة هذا ينهَضُ المرتزقُ الآخر (المرتزق الدنيوي) الموشَّح بغياب الخيال. هو معنيٌّ بالمباشرة والمحسوس المُعرَّف بعورته من ثيابِ الأبجديةِ وتلَصُّصِ النصوص، سيّان إنْ كانت معلقةً على حبلِ غسيلِ السماءِ أو الأرض. فالقتلُ والاغتصابُ، المحوُ والهدمُ، إنْ كان جسداً أو فكرة، لا تتوسلَ الخيالَ وهي تخطُّ نَصَّها بأبجديةٍ حِبرُها من جفافِ عصارةِ شجرِ الخيال لتكون شجرةَ حرازٍ يصوِّحَها دَفقُ الغيم.
الرصاصةُ لا الخيال مَن تَقتُل فيما تَقتل
الارتزاقُ كيفما كان هو سطوُ المحتملِ على ما هو كائن هناك بشريعة العدم وأيدولوجيا النقاء، معاكسة الحلم ونزعه من بستان النعاس وهَدهَدات المنام.
هو أن تنظر إلى الغابة فلا ترى الأشجار وتنظر إلى الأشجار فلا ترى الغابةَ واحتمالًا لغزالٍ يتأملُ صورة غزالٍ آخر تخدشُهُ الظلال في مرايا الغدير.
وكلا الاثنين يجمعَهُما ما يميزهما عن الآخرين: قتلهم إنْ كان صبوات عشقهم أو سمرهم الذي لا ينام
ولأنه صراعٌ بمخالبٍ طبقيةٍ، مثلهُ مثل أي صراع آخر، يتوسَّلُ الارتزاقُ إلى حائطٍ نظَريٍّ يسندُ قفا تكوينِهِ السوسيولوجي. وهنا، فقط هنا يلتقي خطابا المرتزَقَيْن حول ضرورة حواضنٍ ورافعاتٍ اجتماعية بها يكونان بِزيٍّ وتاريخ
في حربهما في الخرطوم كلٌّ يشحذُ صنارتَهُ ويقذفُ بها في نهر الخطاب الذي في مبتداه أوجَدَ هذين التوأمين السياميين. يقتضي ذلك تمفصلات مفاهيمية سياسية وطبقية تسندُ الارتزاقَ كممارسةٍ سياسيةٍ معنيةٍ بسؤال السلطة والثروة
وبدوْرِه يكون ذات السؤال استراحةً لكلا المرتزَقَيْن ليشربا نخبَ القرابةِ ويطلبا سماحةَ الرحم والغفران لما بدرَ منهما من شقاق وخصام.
التعليقات مغلقة.
نحن لانهتم بالاطلاع علي تاريخ الصلاحية للمنتج المكرور فينا
قلبي معك صلاح توزعين للهم والوجع