صلاح الزين
‫الرئيسية‬ مقالات رحل كمال الجزولي فخسرت الدنيا عدة “كمالات” وكسبتها الضفة الأخرى!!
مقالات - 22 نوفمبر 2023, 20:39

رحل كمال الجزولي فخسرت الدنيا عدة “كمالات” وكسبتها الضفة الأخرى!!

صلاح الزين

“أنا القويُّ، وموتي لا أُكرِّرهُ
إلا مجازًا، كأن الموت تسليتي
أُحبّ سيرة أجدادي، وأسأمها
لكي أطير خفيفًا فوق هاويتي
حُرًَا كما يشتهيني الضوء، من صفتي
خُلقتُ حُرًّا، ومن ذاتي ومن لغتي
كان الوراءُ أمامي واقفًا، وأنا
أمشي أمامي على إيقاعِ أُغنيتي
أقول: لستُ أنا منْ غابَ وليس هُنا
هناك. إن سمائي كُلّها جهتي
أمشي وأعلمُ أن الريحَ سيّدتي”
محمود درويش

كيف يحاوَرُ الموت/الغياب؟ اللون/اللوحة؟ الماء/النهر؟ السفور/عورته من غير تقطيبة حاجب أو خطيئة؟

وكأن الريح تحته، كان (كمال) طينةً من قلق واستعجال وهو الذي تتجاذبه فضاءات الكتابة وحقول المعرفة كلٌ على حدة تهصره ويهصرها، صعوبة إلزامه بحدود وحيز كالغيمة والمواسم تخطو فوق ما كان من خطوٍ سابق، أقول، ترى ضاق بذلك فغادر؟؟

كمال يربكُ من يود مسامرته ومقاربة ما يكتنف من تعددٍ وإحالات.
كيف لك أن تعاين لوحةً أو مِعطفًا مدروزًا بعدة ألوان وأنت لا تملك معرفةً بفصاحةِ ألوان قوس قزح؟
بل كيف لك أن تؤانس وتستحدث حيزًا لسمرٍ بين قولٍ شعري وقصيدة وقضايا العدالة الانتقالية وأنت ذات الشخص على نفْسِ الشرفة وما تحتها من انسرابات وحياة؟

هو يكتب ليستشكل الكتابة ومن قبلها نفْسَه حتى ينفذ لِكُنْهِ الكتابة كممارسة ومسؤولية وذاتِه كأحد عباد الله الصالحين في قولهم وفعلهم. فكان بستانًا يستظلُ به الغدير لا السراب وفسحةً للتفكير في التعدد ومساءلة وحدانية الإله وتعدد الكينونة والحقيقة لإكساب الإله ما ينقصه من ثوبِ رحمةٍ وفضل.

غبارٌ ونقعٌ يتلفهُ الغيم حتى يكون وسادةً لبذرةٍ لا تنتظر همهمات الشاكرين وإنْ أخطأوا القول.

به مهارات إسكافيٍّ بِدِربةٍ وفقرٍ يخيط الخيال بالواقعة فتتساكن بذرةُ القصيدة بوقاحةِ مرافعةٍ أمام قاضٍ وشرطي ليحيي الأخير شهوة الوردة لِلُعابِ قبلةِ نحلة من غير إبر ولسع. فكان مثقفًا كمنتصف نهارٍ يرشد إلى الما قبل والما بعد حتى يكون للشمس صدقُها فيبارِكُها الغروب والشروق، الحداثة وما بعدها.

شيوعيٌ، ومثل أي شيوعي لا يرى في مشنقة الأستاذ محمود محمد طه وعبد الخالق المحجوب كما يرى نِسرٌ إلى جحافل نملٍ أخطأ الدرب ونميمة الحصاد.

كيف تأتى لك وواتتُك الشجاعة أن تترجل وأنت تخطو نحو الثمانين كما أقبلت السماء على (محمد) وهو يدنو من الأربعين كما تدنو الظباء لتشم طعم ماء الغدير لتستقي أو يفتنها جمالها في مرايا الماء فتشرب وتُرضِع صغارَها؟

كيف واتتك الجرأة يا ذا الكمال وأنت مائدةٌ ترفلُ بما يشتهي الجالسون حولها إنْ كان زعافًا أو شكرًا للطاهي؟

مفتونٌ بأمدرمان وصحبِها كذئبٍ تفتنه أقاصي الجبال وشهوة الانقضاض ليحمي الفريسة من آخرٍ بأنياب لا تقطع شرايين القلب ولباس الكينونة لعجز فيه كعجز الحراز عن التوشح بالاخضرار.

خاطرةٌ شعريةٌ لا تكتمل وإنْ فعلت خسرت كما خسر إبليس صحبة الله وجنان الرحمة.

أوجدَ ممرًا فسيحًا وآمنًا بين ما يقذفه التراث من حمم والحداثة من توسيع المدى وضيق العبارة لتكون الرؤية مشكاة في كهف الظلام.
بعين فاحصة، كحدأة، يرصد المختلفَ في الفكرة والمُتواضَع عليه لينقذ الإنسانية من موت الفكر وتماثُلِهِ، فكان شيوعيًا ليس فيه من صفاتها غير الارتكان قرب بوابة الفجر ليفتح مزلاج الخروج. مفتونًا بعشق الحياة وعشق العشق إنْ كان صائتًا أو مصمتًا كما جمال منزله ومائدة الطعام والمغسلة !!

ما كان شيوعيًا تم استئناسُهُ وترسينُهُ بمِقْوَد (كورس المرشحين). فقد أتى قبلئذٍ من فصاحة المخيلة وما كيف يجب أن تكون عليه شجرة الحلم، فكان ماركسيًا بمخيلةٍ مثلما كان (شيخ الأمين) شيوعيًا يرى صلاح الحصاد في صلاح المفتش وإصلاح التربة وقنوات الري، فالتقت المخيلة بوحل الواقع وكان فيها صلاحًا لكليهما.

هذبته أمدرمان قبل حزبه فكان الأخير جسره ليعشق أمدرمان أكثر ويكون خِدنُهُ (علي المك) ومن غشي أمدرمان من ظرفائها.

يجمع كمال كل ذلك في الونسة والمسامرة إذ لا شيء أبقى وأرحم وألطف من قعدةِ ونسةٍ رفقة كمال !!
هنيئًا لمن هناك في الضفة الأخرى على ما ربحوا بمقدمك!!

هكذا قالها كمال قبل دهر شعري وها هو يفعلها، ما أنبلك وأجملك يا كمال:
إنَّكَ ميِّتٌ، وإنَّهم ميِّتونَ،
ولا فَكاكْ،
فاجهَرْ، إذن، برفضِكَ الأبيِّ ههُنا،
تجهَر بهِ هناك،
ومُتْ هُنا، تحيا .. هُناك!
كمال الجزولي

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 4.4 / 5. Total : 10

كن أول من يقيم هذا المقال

تعليقان

‫التعليقات مغلقة.‬