
صلاح الزين يكتب : الحرب والذاكرة: ميلاد حرب أخرى ؟؟ ( 13 )
صلاح الزين
الحرب، عكس الآلهة، لها أُبوة وشجرة نَسَبٍ لا تخطئها العين الرمداء ولا العقل الذي لا يرى ويغفل ما أغفله النص المكتوب والفكرة التي تستر عورتها بالفحيح والتصويت.
وهي أيضًا، عكس الذاكرة، كما لا أبوة ونسلٍ لشعارٍ أخطأ درب الهتاف.
وما الذاكرة؟
وما الحرب؟
الذاكرة شارع الله أكبر يملكه الله وعبادُهُ ويتقاسمان نقع غبار المشي، ركضًا وهرولةً، مثل سهم وطريدة.
الحرب والذاكرة لا يتجاوران في التعريف ولا بلولة المنشأ ولا عشب الصلوات والخطيئة. مُرهَقان ومُجهَدان يلتقيان، الحرب والذاكرة، تحت شجرة حراز تُروَى بماءٍ من نهر إبليس والملائكة حتى يكون ثمة معنى للخالق في سماواته وإبليس في أسافله لتكون الحياة، حياة فيها حرب وذاكرة بها يتسق الخالق وقوله فيما يقول.
الذاكرة ضوضاء الصمت وتزويق الغياب حتى يكون أكثر رحمة كنبعٍ يَستُر سفورَ السراب ولو بغيمةٍ عابرة لا ينهكها احتمال الهطول. فهي مشغولة بإيجاد أبجدية تعيد تعريف ما تواضع الناس عليه وطمروه في سديم الذبول.
والحرب، الحرب لا تعريف لها من شدة حيائها !! كشمس منتصف قائظة النهار يعوزها الحياء وكبرياء الخفر.
الذاكرة، بأبوةٍ ونسَبٍ معلوم، تفسح قربها حيزًا لبساطٍ تجلس عليه حربًا عاريةً من تعريف كينونتها ومراعاة أدب الضيافة لتكون حربًا أخرى لشجارٍ بين اللغة والذاكرة حول الريادة والتأسيس. الأولى، اللغة، تكتب بينما الثانية، الذاكرة، ليس من شأنها أن تتذكر ما تقوله اللغة فتفتح للحرب نافذةً لتتذكر ما تقوله اللغة وأنكرته الذاكرة. وبذلك أوجدت الحرب منطقًا عله، قليلًا، يستر عورتها الملفوفة بمعطفٍ خُيوطُهُ من الشمس وفصاحة الظهيرة: كراهيةُ الذاكرة للحربِ والحربُ للغة الذاكرة المطمورة في بستان الخيانة.
ولأن الحرب لا ذاكرة لها فهي تتكئ على مسند محو الذاكرة -أول ضحاياها- حتى تهدهد جموح الحرب ونزقها وتزفها إلى طلاوة مرقد ووسن عصيٍّ على نغزات إبر الصحو والنهوض.
وبذلك، بذلك فقط رست الحرب عند شاطئٍ ضحايا حرب اللغة والذاكرة !!
ومثلها مثل أي ضحية ارتدت فصاحة التعريف وبلاغة الإبانة ومن ثم مشروعية التعاطف والإسعاف.
والذاكرة، كما الحرب، من شدة حيائها تهمس لتقول فلا تسمعها الحرب ضحية حرب الذاكرة واللغة فتعتذر، تعتذر الذاكرة وتقلِّص ثوب الحياء قليلاً حتى يبان جزءٌ من عورتها لتراه الحرب فتسمع. فالحرب تسمع عندما ترى، ككفيف بأذنَيْ حصان.
والحرب شرفةٌ بعلوٍ منخفض تجلس عليها الحياة وتدعو نفسها لنبيذٍ مِن عشقٍ ووترٍ أضاع رفقة الوتر المقابل فانرهق ولم يغلبه النعاس.
هكذا، هكذا تجلس الحياة وتمد رجليها في خفة وغنج وهي ترقب المارين تحت الشرفة، كأسرابِ نملٍ أضاع ميعاد الحصاد، تنظر إليهم أسفلها وتعقد حاجبيها دهشةً وامتعاض.
وفي سهومها ذاك من غير أن تدلق نبيذها ولا تصم أذنيها عن بكاء الوتر اليتيم تسترعي الشرفة انتباهها لحرب أخرى. حرب أخرى لا فضاء لها ومن غير قوام منظور بوصفها حربًا من غير شبق للموت حتى وإنْ كان موت من يود موتك وهلاكك: حرب وكفى. حرب انخلعت عن ضلع الأبجدية والتعيين لتكون حربًا على حربها ضد كينونة الحرب وحقها في الوجود كموجٍ بمدٍ لا جزر له: إنها فلسفة الماء وشجارات حواراته مع النهر !!
بكبرياء وأنفة تترجل الحياة بحثًا عن شرفة أخرى.
والمكان من فرط رهقه من الحرب يعيد تأثيث نفسه كثعبان يغير جلده ليتأبد سُمُّهُ ونسلُهُ وتصبح الحرب صفقةً تسقط من غصن شجرة الذاكرة من غير أن تصوِّح الغصن وتقصفه ولا تنغلُّ قيلولة الظباء تحته على مقربة من غدير وصمته.
الحرب عاهةٌ ينقصها حيزٌ خاصٌ به تعرف وتتعرف. وبرهق اليتم هذا تسطو على المكان لتسد ثقوب كينونتها وترتق ثوب انوجادها. وهذه حرب أخرى أطرافها المكان وموجوداته من شخوص ومتاع.
الناس كائنات مكانية تعرف بالحيز وجواره والحرب ليست من ذاك الجوار إذ لا جيرة لمن لا يمكن لمسه وتحسسه وإنْ كان رحمةً من السماء.
مردوفةٌ فوق سرج الزمكان تتعدد الذاكرة بتكاثر نسل المكان بين الماثل والمحتمل، الهنا والهناك، فالذاكرة لا تتذكر غير المكان المطلي بطين الأُنس وحكاوى لم تكتمل ولن تكتمل حتى لا تقوم قيامة الحياة !!
الحربُ عاهةُ المكان ومرضه اللدود. يمرض المكان فيمرض قاطنوه وتبقى الذاكرة راعي ذاك القطيع بعصاة وصفير تهش عنه ذئاب النسيان والفناء. فكيف تقدِّمُ ذاكرتُك نفسها للحرب ومرض المكان ؟؟ لا مفر أو طريق غير عمامة المكان وشالِهِ أو قصيدة لم ترفع قبعتها توقيرًا للفوضى ونصف المعنى !!
تفنى الحرب ولا تفنى الأمكنة المحمولة فوق سقالتين: المكان، مكانها والحكايا المعقودة على لسان الكلام وما يسرد من حكايات بلغة المكان.
وإنْ نعس المكان أو علاه السأم تُخرِجُ الذاكرة قيثارتَها وتعزف ما يعيد للمكان طربُهُ وهديلُ الحمام.