صلاح الزين
‫الرئيسية‬ دراسات خطاب ما قبل الحرب ومقاربة سؤالها.. ورقة مقدمة في المؤتمر التاسع لمنبر ايوا
دراسات - مقالات - 24 أكتوبر 2023, 8:06

خطاب ما قبل الحرب ومقاربة سؤالها.. ورقة مقدمة في المؤتمر التاسع لمنبر ايوا

 

صلاح الزين

وما كان لها، أعني الحربَ، إلا أنْ تكون كذلك: سليلة خطابٍ أنجبَتْهُ خطابات أخرى وبِدوْرِها لها ذرية قادمة.

أطلَّ خطابُ لجان المقاومة عقب “ثورة” ديسمبر على مشهد الخطاب السياسي المبثوث ومهيمن على بِنْية الفكر السياسي ودولته البعد كولونيالية في تمفصلها وتصاديها مع بِنْية الخطاب القبل كولونيالي والذي كان أشبه بمائدةٍ تُقدِّم نفس الطعام لذاتِ الزبائن بذات الزي والعطر والشهيات!!

فكان أنْ كانت لجان المقاومة “ضيوفًا” جددا على مائدة الخطاب السياسي المسيطِر، ضيوف تسللوا من رتابة شهيات المتحلقين حول تلك المائدة وتخمُّرِ طعامهم واختلالِ شهياتهم وضجرِ مَن يقومون بخدمتهم.

بكلامٍ آخر، كانوا ضيوفًا خرجوا من شهيات التاريخ وهو يتقدم من جانبه المتعفن ليعيدوا إليه سيروراته ومنطقًا فيه، به يكون لتاريخٍ وبِنْيةِ خطابٍ آخر ميلادًا جديدًا. وما التاريخ إلا أمكر وخير الماكرين.

دلقوا النبيذ القديم وكسروا قنانيه وهَدُّوا قبوَهُ حتى يكون للمذاق جماليات تحتفي بذائقةٍ مختلفة للحياة ولسانٍ فصيح، فتمايزوا.

بدأوا بالجسد، جسدِهِم، وحملوه فوق سقالات النشيد ملفوفًا بشعاراتٍ معنيةٍ بتفكيرِ الشعار لا شعارَ الفكر. فكان مسرحهم الشارع حيث الفرجة ومسرحًا ليس معنيًا بالكثارسيس الأرسطوطاليسي في المسرح وإنما بالتغريب البريختي: مساءلة البائن المكرور لا طهارة صلواته وماء وضُوُئه.

فكان الصدامُ، صدامُهم حتم ضرورةٍ مع حاضنةِ الخطاب القَبْلي وما فوق مائدته من طعام وشهيات: خطابٌ طبقي سياسي وثقافي بِبنْيةٍ ذاتِ مركزٍ واحد قبالة خطابٍ آخر صاعدٍ يعترف بتعدد مراكز البنية وضرورة الانتقال من أحاديتها إلى تعددها، وهو ذات منطق التاريخ في تقدُّمِهِ مِن جانبه المتعفِّن.

أتت الوثيقة الدستورية (2019) تُقطرُ خلفها اتفاقية سلام جوبا (2020) لا كإزاحةٍ وقراءةٍ تفكيكية لِبِنْيَة الخطاب المسيطر بقدرِ سعيها لتمتين ذات الخطاب وسَد ثقوباته وإلباسَهُ معطفًا لا يسترٌ عوراته التاريخية.

فكان أنْ ذهبت حكومة الخطاب المسيطر وبقِيَ وتجدَّدَ جهازُ خطابِها وسُلطتِهِ ومن ثم تسيَّدَت ذات البِنْية وقولها لتقول ذات القول بلسانِ ذاتِ القوى الاجتماعية المسيطرة.

اتفاقية سلام جوبا كانت قاربًا أبحر بخطاب حكومة الإسلام السياسي من غموض هيئته إلى ضفة أخرى بشمسٍ فضحت ذاك الغموض وإبهامهِ وأوجدت صباحًا فيه التاريخُ محمولًا على أكتاف الجغرافيا: هبوط التاريخ جغرافيةً ونهوض الجغرافيا تاريخًا لتؤسِّس لمقاربةِ أطروحة الهامش/المركز بعين الجغرافيا لا التاريخ، الزمكان!!

ومن ثم كان منهج الإلحاق الذي يرى إلى تلك الأطروحة (المركز/الهامش) مسافةً في التاريخ تقاس بمنطق الأميال والقُرب والبُعد الجغرافي بدلًا من التمفصل التاريخي الزمكاني: التفاوت الطبقي والاجتماعي وتباين مصالح القوى الاجتماعية غض النظر عن قرابة الجغرافيا والمواسم. فللطبقة والمصالح صنّاراتٌ تعبُر المكان لتخيط سيرورة التاريخ بوضوحِ نيةِ صيّادٍ بنبالٍ وحِراب.

استطرادًا أَلحَقت اتفاقية سلام جوبا نُخبَ الهامش وشرائحَهُ الاجتماعية المسيطرة بركْبِ جغرافيةِ القوى المسيطرة في المركز كإلحاقٍ بوسمٍ مكانيٍّ لا تاريخي وبقيَ الهامش ملفوف بذات اللبوس وذات مواسم الجغرافية وأشواقها المنزوعة من شجرة نَسَبِها التاريخي.

وبذلك أُعيدَ إنتاج الخطاب السابق في انسداده وصعوده نحو حتفه ليكون يدًا تطعم القادم من حربٍ، كحَتْمِ ضرورةٍ، بحليبِ الخراب والدمار. فالحرب كانت دومًا هناك كاحتمالٍ بقيلولات ونزوة.

الحرب لا تستأذن أحدًا، فقط تأتي في وقت ضرورتها كعطسة غير معنية بالحيز ومراعاة الأتوكيت!! وأتت في كامل فتنتها وبغير حياء في الخامس عشر من أبريل.

هلّت وأناخت رَحلَها وكلكلها كقافلة أنهكها المسيرُ واقتفاءُ بوصلةِ النجوم لتعتذر بصدقٍ وخفرٍ عن تلكؤها أو عجلتِها كغيمة غفلت عن عطشِ الحقل والبذار. سقفُها بلا سقفٍ وسماء، وموطيءُ قدَمِها خطابٌ مشطورٌ يتناهشه نباحُ خطابٍ يرى تأبُّد ما هو سائد كبداهةِ الشروق والغروب وآخر مردوف في سرج الضرورة والمغايرة والانزياح عما كان وتَبَدَّه.

وعِيَ خطابُ لجان المقاومة ومواثيقها بضرورة التغيير مقابل من يرى إلى التغيير كزلةِ قدمٍ يمكن جبرُها لتعاود الخطو وإنْ بعرَجٍ خفيف.

وبينهما حربٌ بكامل فتنتها وغواياتها كغابةٍ تتوسط ماءً وهجيرا.

ضرورة وقف الحرب تعيدُ تعريفَ مفهوم الضرورة كدالةٍ تجبِرُ كَسْرَ التاريخ حتى يُعاد تعريفُ الحياةِ كمعطىً، مِثلُها مِثل الماء والهواء.

غَرِقَ بعضٌ مِن المحللين والكتّاب في بِركة سؤال (مَن بدأ الحرب؟ مَن أطلق الطلقة الأولى؟) فسقطوا في مقاربة الحرب كبعيرَيْنِ في مضمار سباق الهجن وأغفلوا دِربَةَ السائس وأُبُّوة البعير.!!

وبرغم ذلك يظل السؤال (مَن بدأ الحرب) سؤالاً ضلَّ درب السؤال ليصير سؤالًا الإجابة عليه بلغة الرياضيات وجداول الضرب الرقمية فتموت الإجابة لغموض مفهوم السؤال.

الحرب ليست برقًا يلمعُ في ذات التو. الحرب كسيرورةِ مظانٍ ومعاش هي دائما هناك كما الحياة والموت.

حرب الخامس عشر من أبريل حربٌ مؤجلةٌ أرهقَها الانتظار حتى كانت فترات السلام في تاريخ السودان حربًا أخرى مؤجلة تتسوَّر حيطان قيلولات السلام والبلاد.

كان، ولا زال، من أخطاء الدولة الكولونيالية أنْ صعَدَت الجغرافية لمصاف التاريخ وانحط الأخير لمصاف الجغرافية، بمعنى صعود المكان تاريخاً وانحطاط التاريخ جغرافيةً (كتبتُ ونشرتُ حول هذا المفهوم في ورقة حول الأيقونة الخاتم عدلان في أربعينية رحيله). فأصبح التاريخ وسيروراته تقرأ بعين المسافة الجغرافية لا التمفصلات الطبقية ومآلاتها.

فكان أنْ رشَحَتْ أطروحة الهامش والمركز كمفهوم فيه الجغرافية تخطو بنعالِ التاريخ لا عباية ولبوس الزمكان: الجغرافية تقاس بطول المسافة أو قِصَرِها عكس التاريخ المنقوع في سيرورات ترافق الاثنين: الزمكانية.

عمَلَ نظامُ الإسلاميين على تلقيح وإخصاب تلك الأطروحة عاليه نجح وكَسَدَ كضرورةِ حتمٍ بعد حين، وابتدعَ خطابَهُ لمقارعة أُطروحات الحركات المسلحة بذات السيف والمفهوم.
فأصبح حل الصراعات المسلحة (قضايا الهامش كما ترى تلك الحركات) بإلحاقها ب “تقصير” مسافة الجغرافيا من “المركز” لا من تعالق أسئلة التاريخ الاجتماعية والثقافية في تشابكاتها ومرجعياتها الزمكانية: التاريخ والجغرافية في تلازُمِهِما لميلاد السؤال، أيِّ سؤال.
فابتلعَتْ الحركات المسلحة، فيما ندر، (الحركة الشعبية شمال وأطروحة السودان الجديد وحركة عبد الواحد نور) الطعمَ الممدود من سِنّارة الخطاب العربسلامي!! خطابان ساحةُ صراعِهِما المكان/الجغرافيا لا التاريخ والزمكان.
فانفصل الجنوب في استناده على معاول أطروحة السودان الجديد فكان خُروجُه من معطف الجغرافيا/المكان إلى رحاب الزمكان والتاريخ. بينما انردفت معظم الحركات المسلحة الأخرى في ذات سرجِ ودابةِ خطاب المؤتمر الوطني حتى بلغ عدد اتفاقيات الدوحة الإلحاقية ما فاق الثلاثين اتفاقية خلال الثلاثين عامًا من حكم حكومة الإنقاذ!!

أفرزت نضالات الشعب السوداني طيلة الثلاثين عامًا من سِيادة الخطاب الإنقاذي، وحتى إسقاطه، خطاب مقاومة مُغايرًا بمُسمَّى لجان الانتفاضة.
وقد أسميتهم في كتابات أخرى لي: الوافدين أو الضيوف الجدد على مائدة الخطاب السياسي السوداني (يمكن مراجعة ذلك في عدة كتابات ومقالات منشورة في صحيفة مداميك).

كانت اتفاقية جوبا للسلام في أكتوبر 2020 هوَ هوَ انتصار خطاب المؤتمر الوطني ضد خطاب الحركات المسلحة والذي هوَ هوَ ذات الخطاب !!

بكلام آخر أفْضَت اتفاقية جوبا للسلام إلى الارتفاق في ذات السرج وذات الدابة باختلاف الرَسَن والوَسْم من غير تغاير الحقل والعلَف!!
بالنتيجة: إعادة إنتاج أو استطالة خطاب المؤتمر الوطني بآليةِ ووثيقة (2019) جديدة لتغتني فقط “مائدة الخطاب السياسي السوداني” بذات الأطعمة وفاتحات شهية الآكلون وبقاء “الضيوف والوافدين الجدد” خارج شهيات ونبيذ المأدبة!!

وجاء انقلاب أكتوبر 2021 ليسد ويرتق بعضاً من فتوقات أحدَثَتها دماءُ وأحلامُ نضالاتِ لجان الانتفاضة وأشواقُهم لصباحاتٍ بطعمٍ مختلف، كانت دماؤهم ومواثيقُهم ونشيدُهم تنقص شهية المتحلقين حول تلك “المائدة”.
لا النشيد خفَتَ صوتُهُ ولا انفضَّ سُمّارُه تحت فِضّة قَمرِ لَيلِهم. فكانت حرب الخامس عشر من أبريل حرباً على كل ما كان لتخرس النشيد وينفضُّ السُّمّار من حول بِرْكة فِضّة قَمَرِهم ويستعلن لمرة أخرى انتصار الجغرافيا على التاريخ ومن ثم متلازمة انحطاط الاثنين و هُما يتوسدان ذات المخدة يلتحفان ذات الغطاء!! ليصير السؤال: بدلاً مِن سؤال مَن أطلق الطلقة الاولى حتى تكون الإدانة وما يستتبعها من استقطابٍ وتوزُّعٍ ما بين الطرفين، البحث عن أسباب حرب مؤجلة ولكل مؤجل ميقات، كما الموت والميلاد وما بينهما من عشق وعشق مغاير.

بالاستطراد، تكون مبادرات إيقاف الحروب الأخرى التي تكوَّمَت في حرب الخرطوم، جدة، الإيقاد والاتحاد الأفريقي، تلعق من ذات الحليب: الحرب حرب بين ” الهناك” و”الهنا” ورحلة القافلة من الأول نحو الأخير رحلةٌ في المكان لا التاريخ، في المسافة لا السيرورة!! مصالحة بين خصمين بذات المعطف والعطر واليقين.

كم يحتاج الخطاب أنْ يكونَ ابن الزمكان لتكون الحرب مركب الأوديسة المكسور!!!

ورقة مقدمة في المؤتمر التاسع لمنبر ايوا  واشنطون 20 – 22 أكتوبر/2023

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 4.2 / 5. Total : 6

كن أول من يقيم هذا المقال

تعليق واحد

‫التعليقات مغلقة.‬