صلاح الزين
‫الرئيسية‬ مفكرة الحرب صلاح الزين يكتب : الحرب وسوسيولوجيا النزوح ( 12 )
مفكرة الحرب - 13 أكتوبر 2023, 5:08

صلاح الزين يكتب : الحرب وسوسيولوجيا النزوح ( 12 )

صلاح الزين

السوسيولوجيا علم مجتمعات الحضر، علم المجتمع، الناس إن كانوا أحياء أو موتى، بحواكير ومنزل وسَمَر وذكريات أو قبرٍ معلومِ المكان أو آخر على عتبة الباب أو مكان مَقعدٍ لِطفلٍ في روضة لم يبدأ هرج يومه بعد.
هي علم ابتعاد العباد عن صلصال النشأة لتكُون الأديان وعلم الجمال.

بينما النزوح: ذاك الخطو من صلصال لآخر، كَمَن يهشُّ جرادًا يتطفل على قيلولةِ حقلٍ، أو معاندة إبليس لإرادة الإله حتى تسقط التفاحة على حِجْرِ (نيوتن) ويذهب الإله وإبليسهُ إلى عطلة فيها تَخلُدُ الحياة للحياة.
بذلك تكون السوسيولوجيا هي علم الحياة.

وهنا يطرح (تيري إيجلتون) احتمال أن نكون قد أسأنا فهم سؤال “ما معنى الحياة ؟” بحيث اعتبرناه كسؤال “أين تقع الكليتان في الجسم؟” أو “كم عينًا يمتلك الإنسان؟”، فتلك الأخيرة هي أسئلة لها إجابات محددة وواقعية، بينما قد لا يكون سؤالنا الأساسي له إجابة على نفس الشاكلة، أو قد لا يكون سؤالًا حقيقيًا يبتغي إجابةً في الأساس كما هو بالنسبة إلى بعض الفلاسفة. إذ إن ذلك السؤال –بالنسبة إليهم- ليس إلا طريقة مملة لقول “يا للروعة!”.
وهو سؤال يصلح لشاعر أو متصوف (من كتاب “معنى الحياة” لتيري ايجلتون). وحربُ الخرطوم شاعرٌ تصوَّفَ فزهد عن الحياة و.. الله !!

والنزوح ليس المغادرة. الأول أنْ تهب المكان حذاءَ ظلٍ وتُردِفُهُ في سرجِ دابةٍ بلا حاسةِ شمٍّ لدربِ الرجوع، كعضةِ أفعى تُودِعُ أسنانها موضع سمها.
والأخير، المغادرة، هُوَ هُوَ سؤال (رولان بارت): كيف للكاتب أن يكون في إجازة من الكتابة والخيال؟ كيف له أنْ يأجِّز من التفكير؟
الأفعى لا يعرف إنْ كان سيعُضُّ مرة أخرى، و(بارت) يعلم أنه سيكتب مرات ومرات.

النزوح عطرٌ يُتلِفَهُ تبدُّلُ المكان. والمغادرة نورسٌ بعُشَيْن.
والحرب كاتاليست catalyst ميلاد العلوم ورَدفُها في قارب العباد لتكون الحياة موتٌ مؤجل.

فالحرب عَطَشُ الكينونة لنزهة على يخت يمخر اليابسة، وشُهودُها ما يروي السراب لظمأِ غديرٍ بالجوار وغزالٍ مأخوذٍ بضيق المسافة بين سهم الصياد وشبق الطريدة.
إنها سرجُ النزوح من غير دابةٍ ورَسَنٍ وعلف، كما ريحٍ فقدت بوصلتها.

النازحُ فارسُ معركةِ النزوح بسيفٍ من أَمام ومن وراء. الأمام سوسيولوجيا حكايات شهرزاد ليكون للحرب سرديات ووضعيات تروي أحلام الأرق ونفوق الصباح. والوراء بَكَرةُ ذكرياتٍ تنسِجُ خيامًا للحنين تناظر تلك التي في الأمام وتعِدُّ سرائرَ الإلفةِ والإياب لقيلولةٍ ليست معنية بالسوسيولوجيا ومناهج البحوث.

النزوح نصفُ برتقالة المكان والذكريات المسنودة ببكَرَةٍ من خيوطٍ بعرَقٍ ونبضٍ كغصنٍ يوسِمُ شجرةً وقت اللقاح من غير استئذان الفأس وأمزجة الهطول.

يرتعد النازحُ، يرتعد كذبابٍ حطَّ على مرايا، من ضياع نصف البرتقالة الآخر وانفلاق خيوط بَكَرة الخِيام.
كائنٌ بخيالِ يرويه فقط ما كان من ماء وسماد كغابة يستعصى خروجُها من ظلال أشجارها ونميمة العشب والظباء.
يربكه علم الخرائط إذ لا ضرورة لعِلمٍ معنِيٍّ بتعدد الأمكنة لا المكان، مكانُهُ، ولذلك يخاف العبور حتى تكون برتقالةُ المكان: “نِصفَ حُلمٍ يسرد نصفَه الآخر” لتكون القصيدة.

النزوحُ رحلةٌ مضنية في سوسيولوجية اللغة والتعريف والمصطلح. والنازح لا يرى مفردةً أخرى خارج بستان لُغتِهِ لتوصيف سطوِ النحلة على رحيقِ الزهر والندى، إذ لا يحتاج العسل لمفردةٍ شاردة تشير إلى لون طعمه!

النزوح والانتقال في المكان يُتخِم اللغة بما سَهت عنه من تعريفٍ ومواضَعة، فتصبح اللغة عاجزة بالثبات في المكان، فتُصابُ، قليلًا أو كثيرًا، بالانبهام والانحباس.

ولأن اللغة من لعاب المكان فهي، كبرقٍ، تشير لما يشي به ذات المكان: تشير ولا تقول فتقول بنقصان الكلام فتخسر اللغة كعربة يجرها حصانُ الذي يقال: الكلام.

يُفجَعُ النازح بعنفِ لغةٍ تترى من تبدل أزياء المكان وطعم اليقين المبلول في تراب الإلفة وترجيع نقع الماء. ويبقى هناك، هناك مشدودًا بين حبل لغتين بأبجدية واحدة: نازح مقابل لاجيء، كائنٌ في المكان وعاداته وآخرٌ مجروفٌ خارج أنطولوجيا المكان كحيِّز فيه الجغرافية والتاريخ بإلفة زوجَي حمَام وما يرجعه الهديل من صهد الشبق.

فاللغة، ضمن تعريفات أُخر، تُعرَّفُ بخفرها أمام سلطة المكان المدروز بالأحياء والموتى.
والأحياء كائنات تقيم في نزيز تربة المكان وتمد للموتى الدعاء والغفران.

ويبقى النازح، إنْ عبَرَ حدود المفردات والتعريف، أمام بوابات يربضُ خلفها ما يجهله وغاب عنه وهو نبتةٌ رعتها مواسمٌ وغيمٌ وريح كالوشم في خاصرة الروح.

وفي غفلة من علوم الإنسان تتعدد السوسيولوجيا: سوسيولوجيا النزوح، سوسيولوجيا اللجوء، عادات الغيم، عطن اللغات، فداحة المنفى ووجع جرس الحنين، وصولاً لتعريف تبدل المكان كانخلاعٍ في كتف اللغة وضلوع الكلام!!
فأيُّ الريحين تعتلي يا ذاك النازح وأي الأبواب تلِجُ ؟؟!!

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 3

كن أول من يقيم هذا المقال