
صلاح الزين يكتب :المنفى والحرب ( 10 )
صلاح الزين
“في المنفى الخارجي أدركتُ كم أنا قريبٌ من البعيد، كم أنّ “هنا” هي “هناك” وكم أنّ “هناك” هي “هنا”..
لم يعد أي شيء عامّاً من فرط ما يمسّ الشخصي. ولم أعرف أيّنا هو المهاجر: نحن أم الوطن“.
محمود درويش
——
و المنفي ضفيرة يمشطها المكان فيتساقط شعرها !!
كلاهما، أعني المنفى والحرب، يشذِّب بستان الآخر ويوارب بوابة الدخول ليَزِفُّ نصفَ المعنى إلى عُرسِهِ المنقوص.
المنفى عثرةُ الماضي والمستقبل فوق تلة الحاضر.
قدرةُ التجسس على الماضي والمستقبل والإِعراضُ عن الحاضر.
قمرٌ بسوءاتِه معلقٌ على حبل الذاكرة بسمِّارٍ مشغولين بما لا يعنيهم كدربٍ غير معني بالمشي وغبار المشاة.
المكان عندما يخرج عن سلطة الزمن يستلف ذاكرة الماء ليغسل حيِّزَه ويشغل الكائنات بترفِ التفكر في أوجُهِ المعنى والكينونة، كصورةٍ تَخرُج عن الإطار وتهشِّمه ليكون للإطار حرية الجلوس فوق مسمار لا تربطه قَرابةُ دمٍ بالحائط، أياً كان لون طلاءه.
هكذا هو المنفى ونزَقُهُ: مقهىً على ناصية اللامعنى أو حانةٌ تُعرِّف نفسها بثرثرات السكارى ولون دخان التبغ.
تأتي الحرب. تأتي كخطيئة مغرورة لتسائِل صلفَ الإله في الجمع بين سلطة إنزال الخطيئة والعقاب، فتعجز وتشغل نفسها بتشييد المعنى ومعقولية السؤال على حافة الفنجان وما لم يراه النادل في سهومات الزبائن ورائحة البن المحروق.
الحرب رحمةُ السماء للمنفى من حرٍ وبَرْدٍ، من غير رسلٍ وعبادات. هي إلهٌ بربطة عنق صيرفي مشغولٌ بطلاء الحذاء وأناقة العملاء ورائحة المكان.
وكما الصيرفي وانشغالاته، الحربُ إلهٌ مِن ذاتِ طينة مخلوقاته، له ما لها من خطايا ولها ما له من فضيلة، والحشاش يملا شبكتو!!
وللمنفى ما يقول للحرب:
المنفَى عطرٌ مدلوقٌ بِرَويّةٍ ودِربة على شالِ الحرب ليستر عورتِها وشبقٍ فيها يحرِمُ الغيمَ من الإنجاب واللذة ويطرِّز وسادة وسَنِها بإبَرِ قيلولةِ وجعِ الحياة وأرق الموت.
فالحرب من نسلِ بذرةِ الحياة ونبتةِ جلجامش: الحرب بوابة الحياة آن تستيقظ من قيلولتها وأحلامٍ غير مشتهاة. تحيي صحو الحياة وترتفق به لقيلولاتٍ يعقبها صحوٌ آخر: فتكون الحياة فقط ما تعكسه المرايا من هفوات!!
وللحرب ما تهمس به في أذن المنفَى:
المنفَى حرب أخرى بعيدة عن جبهات القتال. المنفَى جرسُ الفناء لإيقاظ حجَرِ الصمت والثناء على بِركةٍ تهِشُّ الظباءَ لتنجب غزالاً يُقلِقُ صمتَ الغابة ونومَ الذئاب.
وللمنفَى استطرادٌ على لسان المنفِي:
للمنفِي حربٌ سوحُها بدمٍ سرّي يدرك كنهه ولونه فقط اثنان: هو والإله.
الحنينُ حربُ المنفَى التي لا توقظ حربًا هناك. حربٌ بلا معالم وهيئة، لها ما للحرب هناك من نصالٍ ونبالٍ تسطو على تعريفها وتسهك قوامَها وتعدِمُ ملموسيتها، كجبلٍ هناك، هناك لا تبلغه ولكن تراه (سماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنا!!). نصالُها ونبالُها بقدرةٍ تجاوزت قوانين الفيزياء في الحركة والتصويب: ترتد ولا تنقذف إلى الأَمام كما حزنك على موت أُمِّك، يرتد إليك فتبخل به على الآخرين كشجرة حراز تعرض عن عطايا الغمام.
وللحنين ما يقوله للمنفِيِّ والمنفَى:
الحنينُ طنينُ وجعِ المكان المحشور في غير ما لباسه، كزفّةِ صحراءٍ إلى ماءٍ وحضنِ غابة. أجراسٌ على رقابِ قطيعٍ نام عنه الرعاة وتباعد المرعى. فيه من لؤم الشمس منتصف نهارها: ظلال الوجود تحت أقدامه ووسمه بنقصان التعريف بغير ظِلِ شهودٍ إنْ كان من أمامٍ أو وراء.
وللحنين ما يقوله للحرب:
المكان تُوجِده خطايا الشخوص ونصف الفضيلة ليكون للأخيرةِ نقصانٌ لا يكتمل فيكتمل المكان وينسرب في سراب الاكتمال الذي لا يوجَد إلا في الخسارة والسديم.
كما النجاحات، المكان تجمِّله الخيبات وعشقُ امرأةٍ بلعابٍ خصيب.
الذكريات معطفُ المكان وسِربُ نحلٍ بِغيرةٍ تزودُ عن ندى الوردة وحقِّ الشهدِ في الحلاوة وفرادة اللون.
ويلفتُ الحنينُ انتباه الحرب ويختم:
الذكريات نمْلُ المكان وقرصةُ الأبجدية لمفاتن الكتابة حتى تكون الخطيئة صنو الحقيقة في الإشارة والإبلاغ.
وللمنفيُّ ما يقوله للحرب:
لك مكانٌ لحربك كما لي حيزٌ لحربي، ترى ماذا نحن فاعلان ؟!
ويدعو المنفِيُّ الآخرَ، القادمُ بنعالِ الحرب وجواربِها، إلى مقهىً يَعجَزُ نادلُهُ عن إكمال حكاية اختلاف رائحة البن المحروق ومذاق القهوة. وهكذا يكملان الحكاية في انتظار أنْ تكمل الحرب والمنفى حكايتهما.