صلاح الزين
‫الرئيسية‬ مقالات صلاح الزين يكتب: في مفهوم الممارسة السياسية كواقع نصي
مقالات - 19 أغسطس 2023, 7:29

صلاح الزين يكتب: في مفهوم الممارسة السياسية كواقع نصي

صلاح الزين

السياسة مصطلح ومثله مثل أي مصطلح لا وجود له خارج الممارسة التي تُكسِبه هيئةً وقوامًا فتُجرِّده من وجوده الاصطلاحي.

وللممارسة أوجه عدة مثل التجريب في الكتابة الأدبية، في مقاربتها لما سلف من كتابات إنْ كان تواصلًا أو تجاوزًا، خلخلةً وتفكيكًا انتهاءً ببروز مشهدٍ كتابيٍّ جديد لا يَعدَم الأبوين وإلا ما كانَ وبَرَزَ.
لا توجد كتابة يتيمة بلا شجرة نسب.

تكتسب الكتابة جدارتها في انزياحها عما سبقها فلا تقول قولَهُ وإنما الانزياح عن ما قيل بقولٍ أكثر جمالً و تفكرًا مشمولًا في بنيةٍ خطابيةٍ تحتفي بالتناص لا محوَ ما سبق، تَهتِك ولا تَقتُل ومن ثم تنتفي ثنائية الجلاد والضحية، القاتل والمقتول، فتكون الحياة جديرة بالاحتفاء خيبةً ونجاحًا.

تنحو الممارسة السياسية نحوًا آخر لأنها بنت المعاش والمصائر. شجرة نسبها تُروى بماء الوجود والكرامة وحق العيش في الحياة. طرفها الأول الإنسان معقودًا على الانسان كطرف ثانٍ.
ومن ثم لا يصح عليها ما يصح على الأدب: التجريب في الأخير لا يَقتُل ويَقتُل في السياسة.
ما كتبه ماركيز في “مئة عام من العزلة” بستانهُ الخيال والرواية كواقع متخيل بينما السياسة لا تتخيل الواقع وإنما تتعاطاه كضرورة ماثلة.

ما يجري في محادثات جدة متبوعًا بمحادثات القاهرة وحاليًا أديس أبابا يقع في فضاء التجريب المغرم بالانزياح عما سبقه من تجريب ليَوْرِد بِركة ذات التجريب السابق متوهِمًا تغيُّرَ طعم الماء وسرب النوارس !

ما تم من اتفاقات وحوارات منذ الوثيقة المعطوبة، اتفاق جوبا، شراكة الدم، دستور المحامين، الاتفاق الإطاري، حتى حوارات جدة، القاهرة وصولًا إلى محطة اتفاق أديس أبابا هذا الأسبوع، كلها حوارات ومحادثات لا تنظر إلى الماثل كما هو هناك قبل الحرب وإنما تستل واقعًا آخر من “واقعات” أُخَر بدورها منسولة من ما سبقها من “واقعات”!! وبذلك أُستبدلَ الواقع الواقعي والملموس بالواقع النصي المتفق عليه في نصوص صياغة المواثيق والاتفاقات، سابقها ولاحقها.

استطرادًا تصبح السياسة أَدخَل في فضاء التجريب منها في الواقع ومقاربته من باب السياسة كشأن بشريٍّ معنيٍّ بشؤون الحياة والناس وصولًا إلى ممارسة السياسة كأطروحة إحلالية في فضاءات التجريب المعني بالخيال وصياغاته النصية المتفق عليها في ما كُتبَ من عهود ومواثيق، لا “السياسة” كممارسة تمشي برجلين في الأسواق وبين معاش الناس وأشواقهم إلى صباحات غير معادة ومختلفة.

تَوزَّعَ المشهدُ السياسيُ ما قبل الحرب على خطابين:
خطاب لجان المقاومة (الضيوف الجدد على مائدة الخطاب السياسي السوداني) في تأسيساته النظرية المعطونة في دماء الشهداء على امتداد أكثر من ثلاثين عاما مقابل خطابٍ آخر (زبائن مائدة الخطاب السياسي السوداني منذ أزل) لم يغادر عتبة وسقالات الخطاب السابق، أيًا كان سابقه.

الأول يميِّز نفسَه عن الخطاب المجاور بالقطع معه في بنية خطابه السياسي والمعرفي. الأول يساءِل بينما الآخر يكره المساءلة ويسعد بالمبذول من يقين لا يقلق قيلولاته أرق السؤال.
وبين الأرق واليقين ينفخُ التاريخُ صافراته حتى يوقظ صباحات بطعم مختلف.

وكانت الحرب، كحَتمِ ضرورة، دابةً بسرجٍ واحد مردوفة بخطابين لا يجمع بينهما اتفاق على نوعية العلف ولا مورد الماء. لكلٍ تمفصلاتُهُ الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المبثوثة في قمط الميلاد وعطر الطفولة وشجرة نسب الخطاب والحلم.

وفَدَت خطابات لجان المقاومة إلى نصها والصياغة من الاختلاف مع الخطاب السياسي القَبْلي في فصاحته وغموضه، في مقاربته لسيرورات بنية الخطاب في واقعِهِ التاريخيِ المتحول فأنتجت معرفةً به أبانت عورتَهُ وضرورة سَترِهِ وإصلاحه حتى لا يكون التاريخ مزهوًا بمُكرِهِ وهو خير الماكرين.

فكان “الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب” ذاك العلَفُ وموردُ الماء لتلك الدابة.
بل كان سابقةً نظريةً وتاريخيةً في تفكيك الخطاب السياسي السوداني تُرشدُ التاريخَ لِما يجب أن يكون عليه هندامه: حرية، سلام، وعدالة. وهذا فعل حب. أنْ اختلف معك يعني أن أحبك، أن لا تكونني ولا أكونك. فبالاختلاف تُنتَج المعرفة التي تُعلِّي كرامة الإنسان.

بالمقابل استضاف الخطابُ الآخر نفسَه على مائدة الخطاب الأزلي والمعاد. وبحنكة دُوريٍّ حجز لنفسه مقعدًا مجاورًا بشهيةٍ لذات الطعام وفاتحاتِ الشهية. تجمعهم القرابة الطبقية والفكرية بجلبابها البهي وصِنّاراتها ودِقة عين الصقر في الاصطياد: أولاد حفرة يقوموا ويقعوا سوا !!

وبهذا التماثل يصبحون مجرد امتدادات لما سبقهم من تَكوُّنٍ وبِنْيات، مجرد استطالات لما تعفنَ من أطراف الخطاب المتسيِّد لتكون ديمومته وتمظهراته حتى في صعوده نحو حتفه وهلاكه. ومن ثم لا يتخالفوا مع روافع بِنية الخطاب الماثل لا لحَولٍ أو عجز في البصر والبصيرة وإنما لاستحالة أن يكونوا غير ذلك: الدم الطبقي والخطابي يحنُّ لبعضه، حتى لا نخذل فلاسفة التاريخ من علي ابن أبي طالب وحتى ماركس ومحجوب شريف !!

وهنا مأزق شراك الواقع النصي: أن تأتي إلى النص وبنيتُهُ منهُ وليس من خارجه فتصيرُهُ وتكونُهُ، تتماثل معه ولا تتخالف حتى تنتج معرفةً به لتزيحهُ من عتباته وسقفِهِ إلى عتباتٍ بسقفٍ مختلفٍ به سعةٌ لرؤية القمر في تمرده على غيمةٍ ما بها شبقٌ للهطول.

وبذلك تصبح مقاربة سيرورات التاريخ خارج الواقع وتاريخه وحبيسةَ واقعٍ آخر بتاريخ يَقرأُ بمنهج التماثل فتصير القراءةُ ذات المقروء، المقاربةُ ذات المقارَب: فينتصر النص المتجوهر ويُستبدَل “الواقع بالواقع النصي”، والحقيقةُ وما هو هناك بالخيال فتكون خسارة كِلا الخيال والواقع !!
لا نصًا جماليًا أُنجزَ و لا مقاربةً نقدية كُتبت.

الوثيقة المعطوبة، اتفاقية جوبا، الشراكة، دستور المحامين، الإطاري، مفاوضات جدة، مباحثات القاهرة، وصولاً لحوارات أديس أبابا حاليًا، ما هي إلا حوارات وارفة حول نصوص واتفاقيات منسولة من نصوصٍ واتفاقيات سابقة معنية بالواقع النصي لتلك النصوص والحوارات لا الواقع كما يتراءى ويستعلِن نفسَهُ في حرب نُطفَتُها بُذِرت في حَوَل الرؤية وعمى البصر والبصيرة.
تمارينٌ في قراءة النصوص والمواثيق بحذاءِ الأبجدية المسهوك بغياب تبدلات التاريخ وانسداد محارة الخطاب التي لا تصغي لارتطام الموج بالشاطئ والحصى، وتغفل مهارة الصيادين في تغيير الشِباك وإدراك احتمالات الماء وأنواء البحر !!

الحرب حربٌ على ما تأبَّدَ وتسيَّدَ من خطاب ونصوص. هي حربٌ ضد عادات التجريب في السياسة وتعاطيها كتمرين على واقعٍ نصيٍّ بمعزلٍ عن نص الواقع، ليكون الخُسران خسرانين: التاريخ والقصيدة !!

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 4.2 / 5. Total : 5

كن أول من يقيم هذا المقال

3 تعليقات

‫التعليقات مغلقة.‬