
عبدالله محمد عبدالله يكتب: مِن الأعماق!
عبدالله محمد عبدالله
تأكدتُ من أن عجلة الإيجار التي أتيت بها ستكون في مأمن من عبث الصبية، فأقفلت باب الحوش الأمامي جيدا، وتوجهت إلى داخل المنزل لتناول كتاب استلفته من مكتبة البلدية، وقد آن أوان إرجاعه. تناهى إلى سمعي غناءٌ هامس جاء من ناحية الصالة التي تقع أمام غرفة الجدة الكفيفة، بت محمود. توجهت إلى هناك. كانت بتول قد جلست على أحد السريرين المتقابلين الذين ضاقت بهما الصالة فلم يتركا بها حيزا بلمزيد، عدا ذلك الكرسي وتلك التربيزة التي توسطت السريرين.
كانت بتول كعادتها، في كامل زينتها وبهائها المعهود، جالسة وقد وضعت على حجرها ابنة أختها إشراقة، التي كانت تدنو من نهاية عامها الأول، تحركها برفق، وبانتظام سيدفع بها إلى النوم قريبا. كانت بتول تتغنى بصوت خافت وعند ولوجي الصالة كانت تحدق في وجه الرضيعة وكأنما كانت تقرأ ملامحها للمرة الأولى. صوتها ذو البحة المميزة ظل منساباً دونما جهد منها فكأنما كانت الأغنية خيطا من النسيم ينسرب إلى المكان. فجاءت كلماتها مجسدة للمعني:
من الأعماق يا حبيبي يا غالي
يا ساكن قلبي يا شاغل بالي
رأتني واقفا عندما رفعت رأسها عن وجه إشراقة التي كان النوم قد وجد طريقه إليها. تبسمتْ وهي تقول: عليك الله الغنوة دي ما حلوة؟ مثل هذا السؤال من بتول يحتمل إجابه واحدة لا غير: جداً. قلتها بحماس وقد أرفقتها بنظرة متوسلة لكي تواصل غناءها. واصلت، وقد توهج وجهها بما يبدو وكأنه تفسيرها الخاص لكلمات الأغنية، فأعماق بتول كانت مستودعا لأسرار بلا حصر ومنبعا لأحاسيس جل أن يتسع لها إدراك أمثالي. وإذا أعادت مقطعا أو بيتا فإنما يكون ذلك استجابة لهاتف في اعماقها يسعي لتأكيد أمر ما. وهكذا توغلت بتول في خبايا تلك الأغنية، التي رغم أعجابي بها إلا أنها لا تحيلني إلا إلى ذلك المنولوج الهزلي الذي ألفناه على لحنها ساخرين من معلم اللغة العربية والدين:
أبو عبدالحق ايه يا مولايا
في رمضان فطرني محاية
رضيت بمحايتو
جاب مصلايتو
وقال لي يلا على التراويح ….
لم يكن هذا العبث مما يطيقه معجبو ذلك الفنان أينما كانوا، ولم يكن هناك من مجال للتفوه به في بيت ستنا الذي كان مركزا ثقافيا ومحفلا سياسيا، دع عنك بتول التي كانت تنتقي أغنياتها الأثيرة كما تنتقي الحلي. اتصل سلسبيل الغناء متدفقا من ذاكرة بتول ذات السعة الأسطورية، لكنها توقفت لتقول: الزمن ده في شعراء بيقولوا كلام حلو خلاص. عليك الله شوف الغنوة دي حنينة كيف؟ قال من الأعماق أسرتني عيونك وكيف عايزني أعيش من دونك. والفنان ذاتو عجيب. وضعت بتول إشراقه الغافية على مهد كانت قد أعدته على جانب من السرير، وهي تقول: لكن شروقة دي بعدين الغنا البتعمل فيها الله يحضرنا ليه. عليك الله شوف البت دي جميلة كيف، والله لا ستنا لا غيرها من بنات التوم ما جابت بت زيها. ثم عادت الى دندنتها:
من الأعماق أنا لو تدري
يا حبي العذري وملهم شعري
عشت سنين مستني رضاك
ثم توقفت فجأة لتخاطبني، وكنت قد خطوت بضع خطوات من الصالة: عليك الله شفت سماحة الفنان دة سوّت شنو في البنات ديل؟ ضحكتُ وواصلتُ مسيري الي حيث كان الكتاب.
لم يفارقني صوت بتول العذب وأنا اقطع المسافة بين البيت والمكتبة على تلك الدراجة. تذكرت أنها توقفت لتتساءل عن مدى توفيق الشاعر عندما قال (وعشت أمل حياتي سنينك) لكنها قالت، متقمصة دور ناقد قدير، إنه قد عوّض المستمع عندما قال (كل جوارحي تقول أهواك).
خلال إيابي من المكتبة، طافت بخيالي قصة البنات والفنان الوسيم، والتي كنت شاهدا على بعض فصولها. فعندما عبرت جارةُ لطيفة والتي كانت صديقتها الحميمة ذلك الجزء المنخفض من الحائط الذي يفصل البيتين في رشاقة لا تخطئها العين، هللت لطيفة لرؤيتها قادمة اليها وهي تقول إن الإذاعة كانت تبث أغنية من الأعماق قبل قليل، فأفادتها لطيفة بأنها قد استمعت إليها كاملة. وبدأتا في غنائها بينما كانت لطيفة تنجز مهامها اليومية المعتادة، وهذا ما جعلهما تلجان الغرفة الأمامية حيث كانت الفضية التي ازدانت بصور بعض المطربين. شهقت الصديقة ذات العينين الخضراوين والبشرة الناصعة عندما رأت صورة الفنان الوسيم صاحب أغنية من الأعماق وقد توسطت رف الفضية وقالت للطيفة بانفعال: خاينة.. يا خاينة! وغادرت الغرفة ساخطةً وهي تلملم شعرها الناعم الغزير المنسدل وتجعل منه قرصا متماسكا يعلو رأسها.
قالت لي لطيفة في تأثر: كنت تجيب صورتين ياخي. أحرجتني معاها. وعدتها بأني سوف آتي بصورة أخرى للفنان الوسيم متي ما وطأت قدماي أرض السوق الكبير، ففزت منها ببعض الرضا. انصرفت لطيفة في عجل وعبرت الحائط القصير لمعالجة الموقف. لكنها عادت بأسرع مما توقعت! بدا واضحا أن إنجاز مصالحة من هذا النوع يقتضي قدرا من الحنكة وإجادة التفاوض، وبعض الوقت. عادت مسرعة لتقول إن صديقتها لم تحتمل ما رأت مما أدخلها في نوبة من البكاء، بل إنها شارفت الإغماء لو لا أن أسرع من يعينها ببعض العصير المثلج. وإنها لم تكن على استعداد لمقابلتها ناهيك عن الإستماع إلى كلامها الذي لن يفيد طالما ظل بيتها بمثل ذلك الخواء!
هنا، قررتُ، وقد بلغ الأمر من الخطورة ما بلغ، أن أنهض في غزوة عاجلة إلى السوق، ففعلت، وتوجهت إلى حيث اشتريت الصورة الأولى، ففوجئت بالبائع يخبرني بأن صور الفنان الوسيم قد نفذت وإن الاستديو لن يتمكن من تزويدهم بالمزيد قبل أيام ثلاثة. توسلت فما أجدى التوسل، سألته أين هو الأستديو فأرشدني. كان صاحب الأستديو لطيفا ومتفهما فجاء لي بصورة للفنان الوسيم، لكنها صورة أخرى لا يبدو فيها باسما ولا واضعاً إبهامه وسبابته أسفل وجهه، قال معتذراً، إن العفريتة التي تُطبع منها الصورة التي أرغب في شرائها قد أُتلفت ولا مجال لاستخدامها، وإنهم ينتظرون وصول عفريتة أخرى من الخرطوم. وإزاء هذا التعقيد المأساوي لم يكن أمامي غير شراء ما توفر، فعدت إلى البيت بنصف إنجاز، لكن النصف الإيجابي من هذا الإنجاز قد انتقص منه كون الصورة التي جئت بها لم تكن على ورق صقيل ومحبب كما هو الحال في الصورة الأولى! لم يكن بمقدور لطيفة إخفاء خيبة أملها، وزاد الأمر ثقلا عليها اقتراحي بأن تعطى جارتها الصورة اللامعة ذات الوجه الباسم الذي يستند على أصبعين. لم يكن ذلك سهلا، فماذا إذا لم؟ وإذا لم؟ وإذا لم؟ فهناك الكثير مما قد يحول دون إضاءة فضيتها مرة أخرى بالصورة المرجوة. لذت بالصمت وتركت الأمر لمعالجات الأطراف المعنية.
مساء ذلك اليوم روت ستنا كيف أن ابنها زهير قدم اليها وقد عاد لتوه من المدرسة و قال لها مترنماً ، كما في الأغنية (تسمح لي بى كلمة معاك) وكانت تلك حيلة ناجعة مكنته من الفوز بما أراد، و لكن ليس قبل أن يتغنى أمام والدته بكامل الأغنية. قالت ستنا: زهير ده كان ما خلينا بالنا منه بعدين بخلي المدرسة و ببقى فنان. لكن هناك من كان يرى أن زهيرا بكل موهبته الغنائية سيتجه صوب كرة القدم تحقيقا لرغبة خاله سيد أحمد. وكان طبيعيا وقد جاء ذكر أغنية من الأعماق أن ترد تفاصيل ما حدث بين لطيفة وصديقتها جراء صورة الفنان الوسيم. قالت ستنا والله البت دي حبيبتنا وما بندور زعلها. وأرسلت من يتفقد الجوار أملا في الحصول على صورة تصلح ما أفسدته حادثة الفضية. وبالطبع فقد عاد رسولها بوفاض خال، فليس هناك من يجود بمثلها.
قررت ستنا أن ترغم ابنتها على تجاوز كل الحدود المنطقية للتضحية ونكران الذات، وجعلتها تقتلع الصورة ذات الابتسامة والوجه المسنود بأصبعين، راغمةً، وتأخذها إلى جارتها مع اعتذار لا لبس فيه ولا غموض. عبرت الفتاتان الحائط القصير بعد فترة وجيزة وقد شع وجهاهما بالفرح، وقالتا معا نحن عاملين ليكم حفلة الليلة. عادتا بالشاي والبسكويت. قالت ستنا وحفلتكن وينا؟ الشاي الكل يوم ده؟ تغامزتا، وضحكتا ثم اتخذ وجهاهما صرامة مفتعلة يمكن ترجمتها إلى (والآن نقدم لكم..) وبدأتا صفقة متمهلة محببة وجاء صوتاهما في تناغم تؤديان أغنيتهما المفضلة، من الأعماق يا حبيبي يا غالي، كاملة غير منقوصة. ثم أعادتاها تلبية لرغبة الحاضرين.
لم تكن ستنا ممن أعجبن بالفنان الوسيم ولا أغنيته الرائجة، ولكنها، دعما للمصالحة التي أنجزت، أبدت حماسا وأثنت على الحفل البديع. وفي يوم تالٍ وأنا أزمع الذهاب الي السوق لشراء صورة الفنان الوسيم التي يسند فيها وجهه على أصبعين، تعويضا للطيفة، أعطتني ستنا مبلغا كافيا من المال و أوصتني بشراء عدة نسخ من تلك الصورة لأنها تنوي إهداءها لكل من تلج دارها من معجبات ذلك الفنان الوسيم و أغنيته. قالت إنها تنوي فعل ذلك بصدق.. و..(من الأعماق)!
