
دروس نموذج غلاف غزة وفشله في السودان
“غلاف غزة” في الأصل هو مصطلح إسرائيلي يصف المنطقة العازلة المحيطة بقطاع غزة والتي تضم مستوطنات ومواقع عسكرية لحماية العمق الإسرائيلي من هجمات المقاومة الفلسطينية. أستعير هذا النموذج ونرى كيف تم تطبيقه في ليبيا واليمن وأفشل الشعب السوداني تطبيقه في السودان.
كيف تَكوَّن “غلاف غزة الليبي” بالمعنى الرمزي ففي ليبيا بعد 2014، حين انقسمت البلاد بين الشرق (الجيش الوطني بقيادة حفتر) والغرب (حكومة الوفاق ثم حكومة الوحدة)، ظهرت مشاريع تحصين مناطق النفوذ بدل توحيد البلاد. وبالتالي أصبحت كل منطقة في ليبيا تعمل ككيان مغلق اقتصاديًا وأمنيًا، مما حوّل البلاد إلى شبكة من “الأغلفة الأمنية” المتقابلة.
فشلت كل الحلول من إعادة الدمج وحل نزع السلاح التدريجي الذي طرحته الأمم المتحدة والبعثة الأممية برنامج DDR (نزع السلاح والتسريح وإعادة وكذلك الحل الاقتصادي – الاندماج عبر التنمية والذي نجح هو الحل الإقليمي – الاحتواء الخارجي فمصر دعمت أمن الشرق وتركيا دعمت الغرب وروسيا تمركزت في الوسط والجنوب (فاغنر). وبالتالي، صارت ليبيا تُدار من خلال توازن أغلفة نفوذ يشبه “غلاف غزة”، لكن بتوزيع إقليمي ودولي.
وكان الحل الجذري كما هو في كل مكان يتطلب: تفكيك اقتصاد الحرب، بناء جيش موحّد خارج سيطرة الأقاليم واتفاق داخلي على هوية الدولة ووحدة القرار السياسي.
“غلاف غزة” في السياق اليمني ويشير ه إلى تحويل اليمن إلى شبكة من مناطق نفوذ مغلقة — لكل قوة أو تحالف طوقها الأمني والسياسي والاقتصادي، بحيث: لا توجد دولة مركزية فعلية بل “دول داخل الدولة” وكل طرف يسيطر على محيطه الجغرافي كما تفعل إسرائيل حول غزة: يمنع الاختراق، يتحكم في الدخول والخروج، ويعيش على معونات أو تمويل خارجي. كل طوق من هذه الأطواق أصبح أشبه بـ “غلاف غزة محلي” — مغلق بالمعنى العسكري، يعتمد على الخارج، ويمنع دخول قوى منافسة. وهكذا، استقر المشهد على خريطة من الأغلفة المتوازية: غلاف شمالي شيعي (حوثي) وغلاف جنوبي انفصالي (انتقالي) وغلاف وسطي نفطي (مأرب وشبوة) وغلاف ساحلي (قوات طارق صالح)
“غلاف غزة” في اليمن ليس مجرد مصطلح مجازي، بل أصبح نموذجًا متكرّرًا للسيطرة غير المباشرة عبر وكلاء. فكل طرف داخلي (حوثي، انتقالي، حكومي) أصبح: يعيش داخل غلاف أمني–اقتصادي مغلق. يعتمد على راعٍ خارجي يمده بالتمويل والشرعية، ويبرر بقاءه عبر “الخطر الخارجي” تمامًا كما تفعل إسرائيل مع غزة. وبذلك تحولت اليمن من دولة إلى أرخبيل من الأغلفة المتنافسة، يديرها الخارج عبر مبدأ “التجميد الاستراتيجي” — أي استمرار الصراع دون حسم.
في السودان تمت تجربة هذا النموذج في مشروع «تجميد الصراع» دون حسمه، مع إبقاء الميدان موزّعًا بين قوات الدعم السريع (الجنجويد) والجيش، تحت غطاء «الوساطة» التي تقودها ما يُعرف بـ الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، ومصر).
منذ سقوط البشير 2019، صارت الرباعية (أمريكا، السعودية، الإمارات، مصر) هي المظلة السياسية للتعامل مع السودان. وهدفها المعلن: هو “تيسير انتقال مدني آمن، والحفاظ على وحدة السودان واستقراره.” لكن الهدف غير المعلن كان دائمًا: “منع صعود سلطة وطنية مستقلة بالكامل عن منظومات النفوذ الإقليمي والغربي، وضبط السودان ضمن هندسة أمن البحر الأحمر والقرن الإفريقي.”
مع اندلاع الحرب كانت الرباعية تعمل على فكرة «تجميد الصراع» بدل حسمه وفي مفاوضات جدة الأولى طرحت وقف إطلاق نار مؤقت دون نزع سلاح الجنجويد وبعدها إبقاء الدعم السريع كفاعل تفاوضي شرعي عبر الية الضغوط الدبلوماسية على الجيش لعدم الحسم العسكري وخلال عام ٢٠٢٤ :٢٠٢٥ لتكريس الأمر الواقع وتقسيم النفوذ الميداني عبر مبادرات تجميد خطوط القتال حول ولايات الخرطوم والجزيرة. اي ان الرباعية لم تكن تريد إنهاء الحرب، بل منع أي طرف من الانتصار الكامل والنتيجة المقصودة هي «وضع مجمّد» يسمح لها بإعادة ترتيب السودان تحت وصاية متعددة الأطراف.
حين احتلت قوات الدعم السريع الخرطوم وأجزاء من الجزيرة (ود مدني وما حولها)، كان الخطاب الرباعي هو: “يجب إيقاف القتال فورًا، وفتح ممرات إنسانية، والعودة للمسار السياسي”، لكن عمليًا، سمحت هذه الدعوات بإبقاء الدعم السريع متمركزًا في العاصمة والمناطق الحيوية بحجة الهدنة أي أن “إيقاف الحرب” صار يعني “تثبيت سيطرة الدعم السريع” وتحويل السيطرة الميدانية إلى ورقة تفاوض شرعية. وهكذا بدلاً من أن يكون الجنجويد متمردًا، صار «طرفًا» يجب التعامل معه كأمر واقع إضافة لمحاولة إضعاف الجيش ومنعه من استعادة الخرطوم عبر التلويح بعقوبات على «أي خرق لوقف إطلاق النار» حتى لو كان من الجيش ضد ميليشيا مسلحة. وهكذا، تحوّل «تجميد الحرب» إلى غطاء لإدامة احتلال المراكز الحضرية الحيوية تحت شعار «العودة للحوار».
وكان المنطق الجيوسياسي وراء هذا التجميد، رغم ان الرباعية ليست موحّدة تمامًا في الدوافع، لكنها تتقاطع في المصلحة العامة: امريكيًا منع السودان من الانزلاق الكامل نحو محور روسيا–الصين، والحفاظ على النفوذ في البحر الأحمر؛ وسعودياً تأمين البحر الأحمر والمشروعات الاستثمارية (نيوم، الموانئ) دون تدخل عسكري مباشر؛ واماراتياً إبقاء قوات الدعم السريع كذراع ميداني يخدم نفوذها الاقتصادي والعسكري (الذهب والمناجم والموانيء) ومصريا منع انهيار الدولة السودانية كلية لكن مع ضمان دور للجيش المصري في إدارة مرحلة ما بعد الحرب. إذن، التجميد هو وسيلة لإدارة السودان لا لإنقاذه. وكل طرف يريد أن يخرج بترتيب نفوذ دون السماح بسلطة وطنية جامعة.
أحبط السودان هذا النموذج عبر عدة مستويات كان أولها واهمها المقاومة الشعبية المحلية فمدن كثيرة (كسلا، بورتسودان، مدني لاحقًا) رفضت الاعتراف بالجنجويد كسلطة أمر واقع ولجان المقاومة والمجتمع الأهلي في الجزيرة كشفوا الجرائم ورفضوا “الهدنة المضللة”. هذه التعبئة الشعبية منعت تحول مناطق الوسط إلى قاعدة دائمة للجنجويد.
المستوى الثاني كان التماسك الجزئي للجيش وإقبال المواطنين على التطوع والدفاع عن الوطن وبناء شبكة بديلة شرقًا فالجيش نقل مقره لبورتسودان، وأعاد تنظيم قواته وبدأ في استعادة مواقع حيوية خارج العاصمة، مما جعل التجميد غير مستقر. كما ساعد في هذا تبدل المزاج الدولي بعد تجاوزات الدعم السريع عبر التقارير الموثقة عن الانتهاكات (اغتصاب، نهب، قتل جماعي) جعلت من الصعب على واشنطن والرياض الدفاع عن نموذج «التجميد» وبدأ التحول في الخطاب الأمريكي نحو «محاسبة الجناة».
المستوى الثالث المؤثر كان التماسك المدني والإعلام الوطني عبر الأصوات السودانية المستقلة التي عرت وفضحت الخطة الرباعية وأجبرت أطرافها على التراجع عن دعم “المناطق الآمنة” تحت الجنجويد والنخبة الوطنية التي رفضت صفقات تُكرّس الأمر الواقع.
والمستوى الرابع والمهم كان في الصمود الاقتصادي والاجتماعي غير المتوقع فرغم انهيار المركز، لم تنهَر الدولة بالكامل واستمرار الإدارة المدنية شرق السودان وحركة التجارة عبر بورتسودان أضعف مبررات “الوصاية الدولية”.
النتيجة الحالية (حتى أواخر 2024 – 2025) فالرباعية الدولية حاولت أن تجعل من السودان نموذجًا جديدًا لإدارة الأزمات في إفريقيا: “صراع لا يُحسم، تُجمَّد خطوطه، وتُدار موارده من الخارج باسم السلام”. لكن ما حدث هو العكس: فالسودانيون — بجيشهم ومجتمعهم — أدركوا مبكرًا أن هذا التجميد ليس سلامًا، بل تفكيك منظم فأحبطوا النموذج قبل أن يستقر، لتظل المعركة مفتوحة بين إرادة التحرر الوطني وإرادة التجميد الدولي.