‫الرئيسية‬ مقالات اعتماد قرار تمديد ولاية بعثة تقصّي الحقائق في السودان: قراءة في المواقف الدولية والعربية والإفريقية
مقالات - 8 أكتوبر 2025, 7:10

اعتماد قرار تمديد ولاية بعثة تقصّي الحقائق في السودان: قراءة في المواقف الدولية والعربية والإفريقية

مهدي داود الخليفة
في ظلّ تصاعد النزاع المسلح في السودان منذ أبريل 2023 وما خلّفه من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وانهيار شبه تام للمنظومة الإنسانية، اعتمد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في أكتوبر 2025 القرار رقم A/HRC/60/L.18 القاضي بتمديد ولاية البعثة الدولية المستقلة لتقصّي الحقائق في السودان لعام إضافي.
جاء القرار بعد نقاشات مطوّلة في الدورة الـ60 للمجلس بجنيف، واعتُبر خطوة حاسمة نحو تعزيز المساءلة الدولية ومناهضة الإفلات من العقاب في ظلّ استمرار جرائم القتل والعنف الجنسي والتجويع الممنهج ضد المدنيين.
القرار A/HRC/60/L.18 تمّ اعتماده بأغلبية 24 صوتًا مؤيدًا مقابل 11 صوتًا معارضًا وامتناع 12 دولة عن التصويت. القرار يدين طرفي النزاع في السودان، ويدعو إلى منح المحكمة الجنائية الدولية ولايةً شاملة على كامل الأراضي السودانية للتحقيق في الانتهاكات الجسيمة المرتكبة ضد المدنيين. كما يشدّد القرار على ضرورة تعزيز آليات الرصد وجمع الأدلة وحماية الشهود، وتمكين منظمات المجتمع المدني من التعاون مع البعثة الدولية دون خوف من الانتقام. يُعدّ تمديد هذا القرار استمرارية لقرارات سابقة، أبرزها القرار A/HRC/RES/54/2 (أكتوبر 2023) الذي أنشأ البعثة لأول مرة، وقرار 57/2 (أكتوبر 2024) الذي مدّد ولايتها لعام آخر
اما في ما يخص دلالات القرار وأبعاده السياسية فتتمثل في:
* تأكيد الالتزام الدولي بالمحاسبة:
• استمرار الولاية يبعث برسالة واضحة بأن المجتمع الدولي لن يقف مكتوف الأيدي أمام جرائم الحرب والانتهاكات في السودان.
• ربط العدالة بالسلام:
• القرار يُعيد التأكيد على أن السلام الدائم في السودان لن يتحقق دون عدالة ومساءلة، خاصة في ظل الانتهاكات الواسعة في دارفور والخرطوم وكردفان.
• ضغط دبلوماسي على الأطراف المتحاربة:
يشكّل القرار أداة ضغط على الجيش وقوات الدعم السريع لتقديم تنازلات سياسية، وفتح المجال لجهود الحلّ المدني.
تحدٍّ لمبدأ السيادة التقليدي:
ترى حكومة السودان وبعض حلفائها أن القرار يمثل انتهاكًا لسيادة الدولة، في حين يراه المجتمع الدولي وسيلةً لردع الجرائم وحماية المدنيين.
جاءت خريطة التصويت والمواقف الإقليمية علي النحو التالي:
المواقف الإفريقية
الدول المؤيدة: جنوب أفريقيا كانت الدولة الإفريقية الوحيدة التي صوتت لصالح القرار.
الدول المعارضة: بوروندي، إثيوبيا دعمتا موقف حكومة السودان.
الدول الممتنعة: بنين، كوت ديفوار، الكونغو الديمقراطية، غامبيا، كينيا، ملاوي، غانا.
تُظهر خريطة التصويت انقسام الموقف الإفريقي بين تيار يدعو إلى معالجة داخلية للأزمة عبر الاتحاد الإفريقي، وآخر يرى ضرورة بقاء الملف تحت إشراف دولي.
يُذكر أن المفوضية الإفريقية لحقوق الإنسان كانت قد اقترحت سابقًا تشكيل بعثة تقصّي إفريقية مشتركة، ما يفسّر امتناع العديد من الدول الإفريقية عن التصويت لتجنّب ازدواجية المسارات بين الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي.
المواقف العربية
الدول المعارضة للقرار: الكويت، المغرب، قطر. بينما انضمت الجزائر لركب الدول الممتنعة.
تكشف هذه المواقف عن ميلٍ عربي عام نحو الحذر من الآليات الدولية لحقوق الإنسان، خشية أن تُستخدم كسابقة ضد دول عربية أخرى.
المواقف المعارضة تعكس أيضًا تضامنًا سياسيًا مع الحكومة السودانية أو تخوفًا من تسييس الملف.
أما امتناع الجزائر فيبدو موقفًا دبلوماسيًا متوازنًا، يهدف إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع السودان دون الاصطدام بالتيار الحقوقي الدولي.
المواقف الأوروبية والآسيوية والأمريكية اللاتينية حيال القرار:
الدول المؤيدة:
ألبانيا، بلجيكا، البرازيل، بلغاريا، تشيلي، كولومبيا، كوستاريكا، قبرص، التشيك، الدومينيكان، فرنسا، جورجيا، ألمانيا، آيسلندا، اليابان، جزر المارشال، المكسيك، هولندا، مقدونيا الشمالية، كوريا الجنوبية، رومانيا، جنوب إفريقيا، إسبانيا، سويسرا.
هذا المعسكر يمثل محور الديمقراطيات الغربية والليبرالية التي تربط السلام بالإصلاح الحقوقي.
* الدول المعارضة من خارج إفريقيا والعالم العربي:
الصين، بوليفيا، كوبا، إندونيسيا، فيتنام — وهي دول تنتمي إلى محور يرفض التدخّل في الشؤون الداخلية للدول ويدعو لاحترام السيادة الوطنية.
قراءة في الموقف العربي والإفريقي المشترك
يمكن القول إن المواقف العربية والإفريقية، وإن بدت متقاربة في تحفظها، تنطلق من منطقين مختلفين:
• في الحالة العربية: الدافع سياسي ودبلوماسي، خشية التدويل وتفاقم العزلة الدولية.
• في الحالة الإفريقية: الدافع مؤسسي، حيث تُفضّل العديد من الدول الحلول الإقليمية على التدخل الأممي المباشر.
لكن النتيجة واحدة — ضعف الدعم الإفريقي والعربي لمسارات المساءلة الدولية في السودان، وهو ما يعكس أزمة أعمق في بنية النظامين العربي والإفريقي تجاه قضايا العدالة والحقوق.
اما ابرز التحديات التي تواجه بعثة تقصّي الحقائق فيمكن حصرها في:
1. غياب التعاون الرسمي من الحكومة السودانية، واستمرار منع البعثة من دخول أراضي السودان.
2. خطر الانتقام من الشهود والمدافعين عن حقوق الإنسان داخل السودان.
3. صعوبة الوصول الميداني إلى مناطق النزاع مثل دارفور وكردفان والخرطوم.
4. اتهامات التسييس التي قد تُستخدم لتقويض شرعية البعثة ونتائجها.
5. ضيق المدة الزمنية الممنوحة (عام واحد) مقارنة بحجم الانتهاكات وتعقيداتها.
من أجل تمكين البعثة من أداء دورها بفعالية، أرى ضرورة:
– تعزيز التنسيق بين البعثة الأممية والآليات الإفريقية، لتجنب الازدواجية وتوحيد مسارات العدالة.
– توسيع صلاحيات البعثة لتشمل التحقيق في الانتهاكات الاقتصادية ونهب الموارد، التي تُعد من أبرز أدوات تمويل الحرب.
– حماية الشهود والمدافعين عن حقوق الإنسان عبر آليات مشتركة أممية وإقليمية.
– نشر نتائج البعثة للرأي العام الدولي، بهدف خلق زخم حقوقي ودبلوماسي ضاغط لوقف استمرار الحرب ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات.
إن تمديد ولاية بعثة تقصّي الحقائق في السودان يمثّل انتصارًا رمزيًا للضحايا، ورسالة دولية مفادها أن العالم لا يمكن أن يتجاهل حرب الإبادة والتجويع الجارية.
لكن فعالية القرار ستظل رهينة إرادة المجتمع الدولي في تنفيذ توصياته، وقدرة السودانيين أنفسهم على استثمار هذا الضغط الدولي لدفع مسار العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية.
فلا سلام دون عدالة، ولا مستقبل للسودان دون كشف الحقيقة كاملة أمام العالم.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 0 / 5. Total : 0

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *