‫الرئيسية‬ مقالات السودان: الحرب وفخ التحالفات
مقالات - 19 سبتمبر 2025, 0:38

السودان: الحرب وفخ التحالفات

ناصر السيد النور

تصاعدت في غضون الأيام الأخيرة حدة المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في معارك بغربي البلاد مواصلة لحرب امتدت زمنيا وجغرافيا دون أن يحقق أحد الطرفين أيا من أهدافه العسكرية أو السياسية، بالانفراد بحكم البلاد عبر السيطرة العسكرية. والنتيجة ما آل إليه الوضع الكارثي للأزمة السودانية على الصعيد الإنساني وملفات مكلفة على المستوى القانوني والسياسي من تسبب في إشعال الحرب وجرائمها الجسيمة بحق المدنيين. ولا يملك أي من الطرفين الاستعداد السياسي والأخلاقي، بما يؤهله لتحمل المسؤولية السياسية والتاريخية، أو على الأقل الاعتراف الأخلاقي. وعلى مدار عامين استمرت الحرب بكل فظاعاتها بتورط أطرافها في ملفات تحالفات دولية وإقليمية شائكة، لم تعد قادرة على إدارتها والتعامل مع خطواتها السياسية والتكتيكية، وأصبحت عبئا على أطراف الصراع.
وقد تطورت تداعيات الحرب، وتصاعدت التوترات الدبلوماسية الدولية والإقليمية، عن حرب ذات أطراف ومحاور استراتيجية متعددة، عند صدور بيان الرباعية منتصف شهر سبتمبر الجاري، الذي دعا الأطراف المتقاتلة لإنهاء الحرب، من خلال هدنة تمتد لثلاثة شهور لإيصال المساعدات الإنسانية، وصولا إلى حل نهائي للحرب. والرباعية تضم مصر، السعودية، الإمارات، إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولها في الصراع الجاري ما يمكن وصفه بالأدوار المعلنة والخفية، وتأثير الحرب على سياساتها وأمنها القومي، وعلى تفاوت وزنها ودرجة تأثيرها بمفهوم ميزان القوى، وبعدها الجغرافي عن السودان، تبقى الولايات المتحدة الطرف الذي ينسق ويقود هذه الآلية، على الرغم من غياب الأزمة السودانية عن أولويات أجندة السياسة الخارجية في الإدارة الأمريكية، اللاعب الأكبر في فرض وصياغة رؤية الآلية.
يشار إلى أن الولايات المتحدة بالاشتراك مع السعودية، هما أول من رعى المفاوضات بين الطرفين، عقب اندلاع الحرب في يونيو 2023، في ما عرف بـ(منبر جدة). ومع أن فشل المفاوضات بين طرفي الحرب بتعدد منابره، مؤشر على أن الحرب فرضت شروطها بضغوطها المستمرة، إلا أن محاولات البحث عن حل سلمي تفاوضي، لم يزل خيارا متاحا دون أن تتضح مساراته.
ومثّل البيان إرباكا في المشهد السياسي السوداني، كما جاء في رد فعل الخطاب الحكومي، من رفض قاطع كما ورد في بيان الخارجية، لما عدته تدخلا في شأن السودان الداخلي، وأن تحقيق السلام بنص البيان هو مسؤولية حصرية لشعب السودان، ومؤسسات الدولة القائمة. ومن الغريب أن تشدد الحكومة، فيما يخص مساواتها بالدعم السريع، من بين أسباب رفض ما جاء في البيان، رغم أنه يمثل الطرف الذي تخوض معه الحرب، وسبق أن جلست معه إلى مائدة تفاوض منبر جدة، وغيره من مفاوضات سرية. ولكن ما وراء هذا الموقف الدبلوماسي العلني، تكمن معضلة التعامل مع مبادرة جاءت من دول تمثل للحكومة السودانية والدعم السريع معادلة يصعب التوافق حولها، أو المناورة، أملا في مخرج يبقي على كرامة سيادة الدولة، ومجموعات عسكرية مسؤولة أمام منتسبيها. وأمام هذا التحالف حيث يمكن إيجاد صيغة ثنائية بين دول تقف وراء كل طرف، خاصة أن حكومة الأمر الواقع في السودان تتهم دولة الإمارات بدعم قوات الدعم السريع، وهي دعاوى صعّدتها على مستوى مجلس الأمن الدولي ومحكمة العدل الدولية بخلاف وصول العلاقات بين البلدين إلى أدنى مستوى لها. ومن جانب آخر تقف مصر الداعمة للجيش وعلى علاقة يمكن وصفها تخفي أكثر مما تصرح به الوقائع، لا تخلو من ابتزاز أدى إلى تنازل السودان عن مثلث حلايب المتنازع عليه منذ خمسينيات القرن الماضي لصالح مصر. واللاعب الأكبر في هذه الآلية (الرباعية) الولايات المتحدة الأمريكية وقد فرضت مؤخرا عقوبات على قيادات طرفي القتال، وبذلك تكون الحرب قد دخلت وسط تقاطع مصالح دولية وإقليمية متناقضة من المتوقع أن تزيد من حدة الصراع أكثر من التوصل إلى إنهائه بالطرق التي اقترحها بيان الرباعية. والإشارة إلى تهيئة الظروف التي تضمن أمن البحر الأحمر الأوسع، توضح المنطقة الحرجة في النفوذ الإقليمي والمقلقة على دول المبادرة، ويبنى هذا الموقف على أسس من دواعي أمنية وجيوبولتيكية ومصالح اقتصادية تفوق أهمية الأزمة السودانية.
تلقت الأطراف السياسية السودانية المناوئة لاستمرار الحرب البيان بترحيب، بما فيها بطبيعة الحال قوات الدعم السريع، ورأت فيه خطوة تمثل ضغطا دوليا لإجبار الأطراف لإنهاء الصراع. وكما رحبت أيضا منظمات إقليمية تقع الحرب ضمنها نطاقها الجغرافي (الإيغاد، الاتحاد الافريقي) ودول خارج منظومة الآلية، تأثرت بنتائج الحرب على حدودها. وتدرك الكثير من هذه الأطراف المرحبة، إن هذا الترحيب يحمل من الأماني أكثر من حقائق الواقع، من جهة أن الطرف الرئيس والمسيطرة بحكم واقع القوة ممثلا في الحكومة السودانية، التي تديرها أجندة خفية لمنظومة سياسية، لن تقبل أي محاولة للمس بقبضتها على السلطة، وتثبيتها عبر استمرار الحرب مهما بلغت وحشيتها غير المسبوقة. ولكن أخطر ما ورد في البيان، إشارة بالغة الحساسية تمس المسكوت عنه في الحرب، وتنطوي على رسائل تكشف عن سياسات دول المبادرة بصيغة تهديد مبطن، بالإشارة الصريحة إلى الجماعات المتطرفة العنيفة، التي هي جزء من جماعة الإخوان المسلمين، أو مرتبطة بها بشكل واضح، والتي أججت، كما يذكر البيان، بنفوذها المزعزع للاستقرار، العنف وعدم الاستقرار في جميع أنحاء المنطقة. وفي رأي المحللين أن جماعة الإسلام السياسي، من قيادات النظام السابق والتي لم تزل تقود العملية السياسية والعسكرية في البلاد بهيمنتها على مفاصل الدولة، قد تدخل في مواجهة مكشوفة مع أنظمة دول الآلية المعروفة بحربها ضد التنظيمات الإسلامية، ما يهدد وجودها، في وقت تزداد فيها المطالبات بتصنيفها (الحركة الإسلامية السودانية) حركة إرهابية كوصمة رائجة في سياسات دول المنطقة والعالم. وتدرك الحكومة السودانية ما ينطوي عليه هذا الوصف من مخاطر محتملة على مستقبل مصيرها في العملية السياسية، خاصة بعد أن فرضت وزارة الخزانة الأمريكية مؤخرا عقوبات على وزير مالية الحكومية، بخلفيته الإسلامية، وكتيبة البراء ذراع الحركة الإسلامية العسكري.
ولكن كيف يمكن قراءة بيان الرباعية المشترك، على ضوء التحولات العنيفة التي أحدثتها الحرب في السودان، بما خلقت من أوضاع سياسية مستجدة رسمت خرائطها بما تجاوز الصراع على السلطة، إلى مشروع تقسيم البلاد بقيام حكومة موازية بقيادة الدعم السريع في مدينة نيالا غربي البلاد، حيث تفرض سيطرتها مع بروز مجموعات وكتل عسكرية وقبلية يقودها طموحها إلى رغبات في السلطة، وحيازة ما يحقق بالسلاح على أنقاض الدولة المنهارة. ففي دعوة البيان إلى قيام حكومة مستقلة بقيادة سياسية تتمتع بشرعية واسعة وتخضع للمساءلة، يبدو أن من بين الأسباب التي فجرت الحرب، والتي كانت في جزء من تفاصليها وضعية الحكومة القائمة وشرعيتها آنذاك، لم يأخذها البيان في الاعتبار. وإن كثيرا من محتويات البيان تعكس ما يمكن تصوره من رسم لخريطة طريق تبحث عن سودان لم يعد موجودا بالمعني السياسي، كدولة قائمة بمؤسسات قابلة لتطبيق ما يقترح من مبادرات للمساعدة في الحل، ويتطلب في الوقت نفسه قنوات رسمية تسمح بتمرير ما هو مقبول بالعرف السياسي.
وإذا كانت الإرادة السياسية السودانية غائبة بفعل الواقع في حسم النزاع، وتعنت أطرافها في التوصل إلى ما يمكن ان يطلق عليه الحد الأدنى من التوافق الوطني، فستظل الأزمة رهينة للخارج، بما يمثله من نظام دولي من دول لها سطوتها، أو مؤسسات أممية تتبع له. ولأن أطراف الحرب نفسها تنفذ أجندة دول أخرى، فقد دخلت في تحالفات معقدة يصعب التخلص من تبعاتها بإملاءاتها الضاغطة، وبدا إنها غير قادرة على التوقف في منتصف الطريق، بين استمرار الحرب ونتائجها الباهظة، أو الاحتفاظ في الوقت نفسه بما كسبته بالحرب من سلطة ونفوذ دون أن تنزعه قوى تفوقها في الفعل والإرادة والنفوذ. وهذه الاعتبارات التي يستوعبها كل طرف عسكري وسياسي في الحرب تجعل من المرور عبر علاقاتها الملغومة مغامرة غير محسوبة النتائج على مسرح التحالفات الدولية.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 0 / 5. Total : 0

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *