
نخلة
قصة: أسامة كبلو
المساء يدنو بخطوات متثاقلة ، الشمس تلملم أطرافها بكسل مريب ..
السماء كالعادة رمادية ومحايدة ..
وحيدا أنا علي السطح اقضم اظافري ، وعيناي تراقب النخلة التي احترق عرقها بالأمس القريب ..
كيف ستستقبل أمي خبر احتراق نخلتها التي رعتها لخمس سنوات طوال ،، علي آمل أن تثمر يوماً ما .. لكنها ( النخلة ) ظلت عصية علي الحمل والولادة .. علي الرغم من رهق أمي في محاولة تخصيبها بشتي السبل ..
نزحت أمي بتجاه قرية منسية ، مؤقتا ، وهي لا تعلم بأنها سوف تيمم صوب نزوح آخر عندما تلحق بها نيران البنادق وازيز الطائرات .
الحي الذي كان إلي عهد قريب يعج بالصخب والمجون والجنون المألوف ، لم يعد كما كان ، فتارة يغرق في صمت موحش ومؤلم ، وتارة أخري ينفجر بصخب دوي القنابل والراجمات ..
لكني أنا الوحيد اعتدت كل ذلك ..
لا شيء هنا يغري بالانتباه والترقب ، فقط بحكم العادة انتظر أن يعلن المساء عن مقدمه ، فأشرع في محاورة الشراب ذو الطعم المقيت والرائحة المزعجة ..
علي السطح حولي تستلقي قوارير الخمر فارغة ومنهكة من حواراتنا العبثية طوال الليل ..
في الصباح بعيون محمرة ، جاحظة ومنتفخة ، اعبر الشارع الفاصل بين سكني وارتكاز الجنود المنهمكون في تنظيف أسلحتهم الامعة تحت وهج ضوء الصباح المكفهر بالحمي والعرق ذو الرائحة النافذة..
بضع قطع من الخبز تكفي احملها واعود إلي عرين وحدتي ..
اطمئن علي مؤنتي من قناني الخمر الرديء وهي تقبع في صندوق المهملات بالسطح ..
وحيداً وعاجز مثلي صندوق المهملات ، غير إنه لا يحاور وحدته بالشراب كل ما اعلن الليل ميلاده المتكرر ..
وحدها النخلة تشهر عقمها دون خجل ، كأنها تقول لي ولقناني الخمر الفارغة ، لا شيء يجدي هنا ..
السطح شاسع وخالي مثل عقلي المترنح بين الصحو والغياب ..
قلبي أيضاً تعلم أن يكون محايدا مثل السماء الممتدة منذ الازل رمادية، لا تعبأ بأزيز الانتنوف ولا هدير المضادات الأرضية ..
أفكر لبرهة بالنخلة التي احترق عرقها بالأمس .. لكنها لا تزال واقفة معلنة عن غضبها وتحديها للخصوبة وللحياة ..
اتحسس خطواتي في ظلمة الليل علي الدرج ، رأسي يعالج انتشاء غامض ، بفعل الشراب الرخيص ..
بخطي مترنحة ويد ساهمة افتح الباب المطل علي الشارع و النخلة محترقة العرق ..
جذعها الغليظ لا يبوح بشيء ..
هل هي تحتضر ؟!
انحني حتي استلقي مستويا علي الأرض ، اسكب ما تبقي من شراب علي التربة المختلطة بالرماد المحترق .
خذي ماء التمر ،لعلك تفهمين يوما معني الخصوبة ..
للخصوبة نشوة ولذة لا يدركها من أختار العقم طائعا مختارا ..
النشوة الآن تأخذني إلي أعماق سحيقة من تاريخ العقم المنسي في ذاكرة الحرب والتاريخ ، خدي الملتصق بالتربة يبحث عن مدخل لجذور ممتدة عميقا في شرخ الأرض المتعبة بفعل الحب .. والحرب ..
ازيز الانتنوف مثل طنين نحلة قادمة من المجهول يعبر ذاكرتي ، شهيق التاتشرات مثل موجة في حلم يقظة يعلو ثم يخفت ، عجلات الدفع الرباعي تعبر جسدي بخفة تحسد عليها ، أصوات المضادات تختلط بفرقعة عظامي وانين قنينة الشراب الفارغة.
٣٠ يونيو ٢٠٢٥ م
التعليقات مغلقة.
القصة جميلة جدا. هناك اخطاء طباعية قليلة لم ينج منها حتى تاريخ كتابة القصة.