‫الرئيسية‬ مقالات عن مشروع التغيير الجذري في السودان (2)
مقالات - 11 مايو 2022, 0:15

عن مشروع التغيير الجذري في السودان (2)

عمار الباقر

تحدثنا في المقال السابق عن ملامح مشروع التغيير الجذري في السودان ومشروعه التنموي المتعلق بتأسيس نمط اقتصادي إنتاجي يعمل على استغلال الموارد الطبيعية بصورة مثلى، ويعمل علي إضافة قيمة للمواد الخام قبل تصديرها، وذلك بتأسيس نهضة زراعية صناعية ذات طابع اجتماعي يتشارك الجميع في بنائها والاستمتاع بعائداتها.
في هذا المقال ستناول بالشرح المبسط ملامح البنية الاقتصادية الموجودة حالياً وكيف أفضت بنا إلى حالة الصدام المباشر مع قادة المؤسسة العسكرية والأمنية.
في البدء أشير إلى البنية الاقتصادية الحالية قد أسست خلال الفترة الاستعمارية، حيث عمل المستعمر البريطاني على بناء قاعدة زراعية تعمل على إمداد المنظومة الصناعية البريطانية بالمواد الخام، لذلك نجده قد ركز علي زراعة القطن والحبوب الزيتية علي سبيل المثال، كذلك نجد أن نظرية المستعمر البريطاني في التصنيع لم تتجاوز تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الضرورية مثل صناعة النسيج والزيوت والصابون.
قبيل خروج المستعمر نجده قد سعي لإيجاد طبقة اجتماعية تتولي إدارة هذه البنية الزراعية والاقتصادية وتحافظ على دور التبعية للاقتصاد البريطاني بصفة عامة. هذه الطبقة تشكلت من مجموعة من مجموعة رأسمالية مسيطرة علي المشروعات الزراعية والصناعية الرئيسية ومجموعات من المتعلمين تعليماً استعماريا، حيث لعبوا دور مستودع الأفكار وقاعدة الخبراء والمستشارين للدولة السودانية، كذلك نجد قيادات الإدارة الأهلية الذين لعبوا دوراً كبيراً في ضمان انسياب المواد الخام من مواقع الإنتاج إلى موانئ التصدير بأسعار زهيدة تعظم من ربحية الشركات الرأسمالية الأجنبية وحلفائهم من الطبقة الرأسمالية في السودان.
ولان هذا النظام الاقتصادي هو في جوهره نظام غير عادل فقد ارتفعت العديد من الأصوات في مناطق إنتاج المواد الخام وعدد كبير من المتعلمين في المدن احتجاجاً على عدم عدالة هذه البنية الاقتصادية والتي تعطل نهضة البلاد الاقتصادية والمتمثلة في بناء قاعدة صناعية تعمل على الاستفادة من المواد الخام الموجود في البلاد وتحويلها إلى سلع (راجع كتاب كوامي نكروما الاستعمار الجديد- آخر مراحل الامبرايالية 1966م).
هنا دخلت المؤسسة العسكرية في الخط حيث عملت عبر مجموعات من الضباط المغامرين الذين لديهم مصالح في استمرار هذه البنية بالتدخل وقطع الطريق أمام أي محاولة لهدم هذه البنية وإحلال المشروع التنموي الوطني الديمقراطي.
حدث ذلك في انقلابات 1958م و1969م و1989م و2019م و2020م. في هذا الصدد ينبغي التأكيد علي أن انقلاب مايو 1969م لم يكن انقلاباً لصالح مشروع البناء الوطني الديمقراطي، بل كان كما وصفه الشهيد عبدالخالق محجوب انقلاباً للبرجوازية الصغيرة المستعجلة التي تسعى إلى حرق المراحل وإنجاز مشروعها بعيداً عن الحركة الجماهيرية، مما يقطع الطريق أمام مسيرة التطور الطبيعي للحركة الجماهيرية ويطرح قضية الديمقراطية كقضية جوهرية.
في عهد البشير حدث تطور مهم في تركيبة الطبقة المسيطرة علي البنية الاقتصادية السودانية، حيث وجدت المؤسسة العسكرية نفسها مطالبة بالتصدي للعديد من النزاعات الداخلية المسلحة في أكثر من منطقة وفي نفس الوقت عجزت الدولة عن توفير الموارد اللازمة لقيام المؤسسة العسكرية بالتصدي لهذه التمردات. نتج عن ذلك اختلال كبير في موازين القوى، حيث قررت المؤسسة العسكرية انتزاع قسم كبير من موارد البلاد الاقتصادية من الدولة وتولت إدارتها بنفسها تسخير عائداتها لصالح هذه المؤسسات ليتحول قادة هذه المؤسسات إلى طبقة رأسمالية جديدة مسيطرة علي جل موارد الباد الاقتصادية ]راجع حديث د.عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السابق لبرنامج مؤتمر إذاعي أغسطس 2020م، أيضا راجع: اليكس ديوال (2019): Sudan: A Political Marketplace Framework Analysis, De_Waal_Sudan_a_political_marketplace_analysis_published .pdf (lse.ac.uk)]

أشير هنا إلى ما حدث كان تطوراً متوقعاً لفشل البنية الاقتصادية السودانية في تحقيق العدالة في توزيع الثروة والغياب التام لمفهوم العدالة الاجتماعية داخل هذه البنية. وهذا هو جوهر ثورة ديسمبر وهذا هو التجلي الأبرز لشعار حرية- سلام – وعدالة، فثورة ديسمبر قامت ضد تحالف كبار الضباط وقمم الرأسمالية الطفيلية التي تعمل على تدمير البيئة ونهب الموارد وبيعها في صورة مواد خام، وتسعي لإحلال البديل التنموي ذي المحتوى الوطني الاجتماعي الديمقراطي.

إذن.. ما العمل؟
يبرر مناصرو مشروع الهبوط الناعم قبولهم لنهب موارد البلاد بواسطة مجموعات كبار الضباط وطبقة الرأسمالية الطفيلية بأنهم لايملكون السلاح في مواجهة المؤسسة العسكرية والمليشيات التابعة لها، ويصورون مشروع التغيير الجذري كمن يسعي الي جر البلاد إلى الحرب الأهلية.
في البدء لابد من التاكيد علي ان مشروع التغيير الجذري هو مشورع سلمي وطني ديمقراطي، وحسب فهمي المتواضع يرفض مشروع الهبوط الجذري إطلاق طلقة واحدة حتى في نزاله مع أي جهة كانت مسلحة أو غير مسلحة حتي وإن امتلك المشروع مئات آلاف من الجنود وملايين الأسلحة.
فمن يفقد حياته أو يصاب في هذه المواجهات هم الجنود وصغار الضباط بينما سوف يعمل كبار الضباط وحلفاؤهم من رأسمالية طفيلية للاستفادة من أجواء هذه الحرب وانتزاع قسم أكبر من موارد البلاد باسم الحرب، وهو ما يسمى باقتصاديات الحرب.
إن مشروع التغيير الجذري لديه سلاحه المجرب وهو سلاح السلمية الذي يمكن استخدامه بفعالية في مواجهة المؤسسة العسكرية والمليشيات المتحالفة معها، فأي مجموعة مسلحة لابد لها من حاضنة اجتماعية تعمل على توفير شبكة للحماية الاجتماعية وتوفير الدعم اللوجستي والمعلوماتي لها. فإذا توقف المجتمع عن بيع الطعام والوقود وتوفير الحماية الاجتماعية للمجموعات المسلحة العاملة في محيطه فشلت هذه المجموعات وكتب عليها الفناء. كذلك لا تستطيع الشرطة حل قضية جنائية واحدة إذا توقف المجتمع عن الإبلاغ عن الجرائم ومد الشرطة بالمعلومات التي تساعدها في فك طلاسم الجرائم، وكذلك الحال لدى أجهزة المخابرات.
إن الضغط الاجتماعي على هذه الأجهزة وعدم الاعتراف بما تقوم به من ممارسات اقتصادية غير مشروعة ومقاطعة قادتها سوف يؤدي إلى عجز هذه المؤسسات عن القيام بدورها المرسوم لها في حماية البنية الاقتصادية الحالية وتسخير مواردها في غير صالح الشعب.
تلك هي الوصفة السحرية التي تبدأ بمثل هذا المقال وتتطور إلى وقفات احتجاجية ومواكب وإضرابات وارتفاع وتيرة الاحتجاج ضد قيام المؤسسة العسكرية والمليشيات المتحالفة معها بنهب موارد البلاد الطبيعية لتتوج في خاتمة المطاف بالإضراب السياسي والعصيان المدني الشامل.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 4 / 5. Total : 4

كن أول من يقيم هذا المقال