‫الرئيسية‬ مقالات السودان: بين إرادة الشعب وتواطؤ الإتحاد الإفريقي
مقالات - 25 سبتمبر 2025, 10:31

السودان: بين إرادة الشعب وتواطؤ الإتحاد الإفريقي

دكتور الوليد آدم مادبو

العدالة هي أساس كل سلطة شرعية، ومن دونها يتحول الحكم إلى طغيان.” — جان جاك روسو

لم يعد النزاع في السودان مجرّد مواجهة عسكرية بين قوتين تتنازعان السلطة، بل أصبح صراعًا جوهريًا بين شعب يتطلع إلى الحرية والسلام والعدالة، وجماعة إسلاموية تسعى للعودة إلى السلطة والإفلات من المحاسبة على ما ارتكبته من جرائم ونهب للثروات. فهم رؤية هذا الواقع ضرورية لفهم طبيعة الحرب وسبل معالجتها، إذ إن أي قراءة سطحية لن تفضي إلا إلى إطالة أمد المأساة وتعميق الانقسام الوطني.

هذا الصراع ليس صراعًا محليًا بمعزل عن محيطه الإقليمي والدولي؛ فكل شرارة في السودان تمتد آثارها إلى البحر الأحمر والقرن الإفريقي، وتلقي بظلالها على الهجرة غير المنظمة واستقرار الإقليم. ومن ثم، فإن التعاطي الدولي مع الأزمة لا يجوز أن يقتصر على بيانات القلق أو المبادرات الشكلية، بل يجب أن يُبنى على وعي حقيقي بأن أمن السودان جزء لا يتجزأ من الأمن الإقليمي والدولي، وأن أي غياب للعدالة يهدد السلام والاستقرار على نطاق أوسع.

لقد بدأت الحرب بصدام بين الجيش وقوات الدعم السريع، لكنها سرعان ما كشفت عن خطوط عميقة للصراع: مشروع مدني ديمقراطي يسعى لاستكمال مسار الثورة الذي أُجهض بالانقلاب، في مواجهة مشروع إسلاموي يسعى لاستعادة الهيمنة الأيديولوجية وشرعنة الإفلات من العقاب. هذه ليست مجرد فوضى مسلحة، بل امتداد لتاريخ من القمع والإقصاء، حيث تحولت المؤسسات العسكرية والشرطية إلى أدوات أيديولوجية بدل أن تكون حاضنة للوطن ووحدته.

وبناء دولة حديثة يتطلب مواجهة هذا الإرث بجدية؛ المؤسسة العسكرية لا بد أن يُعاد تأسيسها على أسس مهنية ووطنية، تعكس تنوع السودان وتخضع لسلطة مدنية شرعية. أما من ارتكبوا جرائم بحق الشعب أو نهبوا موارده، فلا بد أن يمثلوا أمام العدالة. كما قالت أورسولا فون دير لاين: «لا سلام بلا عدالة»، وحذّر نهو ريبادو: «حين يصبح الفساد ملكًا، تغيب المحاسبة وتنهار الثقة بالسلطة». هذه ليست شعارات، بل معايير أساسية لبناء الثقة بين الدولة والمجتمع.

ولا يقتصر الخلل على المجتمع الدولي، فالمنظومة الإقليمية لعبت دورًا مشكوكًا فيه. فقد اكتفى الاتحاد الأفريقي بمجاراة خطاب حكومة بورتسودان، التي اعتمدت في ممارساتها الدبلوماسية على الرشى والالتفاف، كأنها ترى في شراء الولاءات بديلًا عن تقديم رؤية وطنية حقيقية. إن هذا النهج لا يعكس إفلاس الحكومة فحسب، بل يكشف قصور الاتحاد نفسه في السماح بتحويل أداة إرساء السلم إلى منصة لتصفية الحسابات وإعادة تدوير إرث الإنقاذ البالي.

ويأتي الاجتماع الأخير في أديس أبابا ليكون مثالًا صارخًا على هذا التواطؤ، إذ رتّبه سمسار بورتسودان لدى الاتحاد الأفريقي، بلعيش، مستبعدًا القوى المدنية الحقيقية، مكتفيًا بما يُسمّى “المجتمع المدني” الحكومي وببعض الكيانات السياسية التي تشكلت طبيعتها واختبرت هويتها منذ “اعتصام الموز”.

إن هذا العرض الانتهازي لا يعكس سوى محاولة لإعادة إنتاج الحيل القديمة والاستهانة بوعي الشعب السوداني الذي كاد أن يقتلع دولة الإخوان المسلمين (الكيزان المفسدين) من جذورها، بينما يظن بلعيش، الدبلوماسي المغربي، أن شيطنة القوى الثورية وتلميع واجهات السلطة يمكن أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء.

ولذلك، فإن أي تسوية دولية يجب أن ترتكز على حوار شامل يُنصت إلى أصوات المدنيين والنساء والشباب وسكان الأقاليم المهمشة، لا أن تعيد تدوير النخب العسكرية أو الأيديولوجية. كما أن الحكم الديمقراطي لا يمكن أن يكون مجرد إطار دستوري شكلي، بل لابد من مؤسسات حقيقية تكون شفافة ومسؤولة أمام جميع الأقاليم، ومدعومة بآليات عدالة تاريخية تضمن عدم تكرار الانتهاكات.

الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الاتحاد الإفريقي، ومجلس الأمن، جميعها مطالبة بترجمة أقوالها إلى أفعال: ممارسة ضغط دبلوماسي فعّال، ربط أي مساعدات بمعايير واضحة، تفعيل أدوات العدالة الدولية، وإيجاد آليات رقابية مستقلة تحول دون أن تتحول التسويات إلى مكافأة للجلادين. فالعدالة ليست ترفًا يمكن تأجيله، بل هي الشرط الأولي للسلام المستدام.

ختامًا، لقد آن الأوان لتسمية الحرب في السودان بما هي عليه: صراع بين مشروع وطني مدني يريد الحرية والسلام والكرامة الإنسانية، ومشروع إسلاموي يسعى إلى السلطة بأي ثمن ويتخذ من “الجيش الوطني” مطية لتحقيق غاية آنية. وإذا أرادت المنظومة الدولية الحفاظ على مصداقيتها، عليها أن تثبت أن العدالة ليست مجرد شعار، بل أساس أي سلام مستدام. فمستقبل السودان، واستقرار الإقليم بأسره، لن يُبنى إلا على رؤية تجعل الشعب السوداني شريكًا لا ضحية، وترى في العدالة ركيزة لا يمكن القفز فوقها.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 1

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *