‫الرئيسية‬ مقالات هداية وخبال وشهوة (2)
مقالات - 11 مارس 2023, 7:26

هداية وخبال وشهوة (2)

حسام عثمان محجوب

“شهوة أن تكون الخصومة في عزها واضحة غير مخدوشة بالعناق الجبان” – قصيدة الشهوات لمريد البرغوثي

موات السياسة التقليدية
مكنت ثورة ديسمبر المجيدة ملايين السودانيين/ات من ممارسة العمل السياسي المباشر – بأشكال مختلفة – لأول مرة، وأتاحت لهم ولغيرهم من أجيال ما قبل نظام الإنقاذ فرصاً تاريخية لمعايشة أحداث فارقة ومشاعر متناقضة، واختبار صحة مفاهيم ومعارف ونظريات وتحليلات عامة وجماعية وشخصية، وزيادة وعيهم.
ومع استعار أوارها ظن كثيرون أن الشعب السوداني تعلم دروس تاريخه المعاصر وتجاربه الثورية الرائدة في أكتوبر وأبريل ومقاومته لنظام الإنقاذ، واستوعب أخطاء أشقائه ثوار الربيع العربي، وأنه بدأ خطوات جادة نحو تحول ديمقراطي مستقر ومستدام.
ولكن الممارسة السياسية التي أعقبت سقوط البشير كانت دافعاً لكثير من الثوار، ولا سيما الشباب، للنظر بعمق في السياسة السودانية التقليدية بقيمها ومناهجها ووسائلها ومسلماتها وثنائياتها التبسيطية ونتائجها. وعلت أصوات متعددة بأهمية اغتنام الظروف الجديدة التي خلقتها الثورة للانعتاق من إسار السياسة التقليدية لسياسة جديدة مفارقة لها تماماً.
اعتبرت هذه الأصوات أن تحالف قوى الحرية والتغيير هو أقصى ما يمكن للسياسة التقليدية تقديمه، فقد أتيحت له ظروف لم تتوفر لغيره من تحالفات في تاريخنا المعاصر؛ مد جماهيري عارم في ربوع السودان، ووحدة حد أدنى بين القوى السياسية الأساسية، كما استفاد من التجارب السابقة، فعمل على تجويد وسائل تحقيق التحول الديمقراطي المجربة، بالتوصل لميثاق يحكم الانتقال، وتحديد أولويات وبرامج للفترة الانتقالية، وتشكيل حكومة للقيام بتنفيذ مهامها.
منذ البدء كانت هناك شكوك في قدرة ذلك المنهج على وضع السودان على طريق معالجة أزماته الكبرى، ودعوات لخفض مستوى التوقعات، وللجدية في تغيير مناهج عمل السلطة الموروثة، ولمواصلة العمل على بناء التنظيمات الجماهيرية القاعدية والنقابية، وتحذيرات صريحة من مآلات الشراكة بين القوى السياسية والعسكر، وبينهم جميعاً والمجتمع الدولي.
لم تفلح التحذيرات في منع انقلاب 25 أكتوبر 2021، ولكن هذه الأصوات اكتسبت مصداقية أكبر وسط الجماهير، وثقة ذاتية أكثر بصحة تحليلاتها وتوجهاتها من وقوع الانقلاب الذي تنبأت به، ومن المقاومة الجماهيرية الباسلة له منذ لحظاته الأولى تعبيراً عن تغير كبير في الخارطة السياسية، ومن عجز النادي السياسي التقليدي عن تغيير مساره في تعامله مع الانقلاب، انتهاءاً بالعملية السياسية الحالية.
هذه الأًصوات الجديدة قد تكون أحد أهم نتائج ثورة ديسمبر التي ما زالت متقدةً صعوداً وهبوطاً، لأنها تتمدد في مساحات جديدة، تكسب جماهيراً غفيرة الأعداد، واسعة الانتشار، صغيرة الأعمار، رأت النور في أكثر عهود السودان ظلاميةً، وشاركت في صنع “أسطورة” ديسمبر التي كان حد طموحها السماء، وفي سبيل حلمها بالوطن الذي تستحقه فهي لا تملك ما تخسره ولا ما يقيدها.
سياسة جديدة تتخلق
يمكن التعرف على ملامح السياسة الجديدة في أدبيات عديدة من أهمها مواثيق وخطابات لجان المقاومة، وبيانات وإعلانات القوى المشكلة لتحالف التغيير الجذري، وكتابات لأفراد منخرطين/ات في الحراك الجماهيري الواسع. ليس بالضرورة أن يكون هناك اتفاق كامل على كل تفاصيل هذه السياسة، وأحياناً قد تبدو هناك اختلافات جوهرية بين بعض الأطروحات.
مهم جداً أن تتم مناقشة الأسس التي تقوم عليها هذه السياسة الجديدة داخل هذه القوى وجماهيرياً كجزء من الخطاب الذي تتوجه به لجماهير الشعب والقوى الأخرى. في ما يلي رؤيتي الخاصة لبعض فرضيات وأسس السياسة الجديدة وما تعنيه من ناحية عملية.
في البدء كانت لا دولة
لا توجد اليوم دولة حقيقية في السودان، الشكل القائم هو في أحسن الفروض شبه دولة تسيطر على أجزاء من المركز وبعض المناطق. ولكنها غير موجودة أو محسوسة لغالب الشعب السوداني؛ هناك ملايين يعيشون في معسكرات نزوح أو لجوء لا وجود للدولة فيها بأي شكل، وملايين يعيشون في قرى وحلال وفرقان وبوادي وجبال وأرياف لا توجد فيها مظاهر دولة توفر الأمن أو الخدمات أو تفرض القانون، وملايين أخرى يعيشون في أطراف مدن لا يعرفون من الدولة إلا قمعها وجبايتها.
وهناك رقع جغرافية واسعة بمساحات تساوي دولاً كاملة تخضع لسيطرة مليشيات وحركات مسلحة تفرض سيادتها وقوانينها ونظمها الاقتصادية وأجهزة قمعها. ولا وجود حقيقي للدولة في مساحات واسعة على حدود البلاد الشرقية والغربية تبدو مفتوحة لتدخلات مشتركة مع جيوش ومليشيات دول الجوار في ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى وأثيوبيا وأريتريا. وقيادات الدولة والقوى السياسية والمؤثرة مخترقة من قبل أجهزة استخبارات ودول أجنبية أو واقعة تحت سيطرتها مثلها مثل حدود السودان السايبرية والمعلوماتية.
السلطة ليست الحل
انتفاء وجود الدولة يعني أن السلطة ليست هي مشكلة السودان الأولى وأن الوصول إليها ليس هو الحل، ولا يجب أن يكون الهدف الأول للقوى التي تنشد التغيير الجذري. الأفكار المطروحة للوصول للسلطة اليوم لن تسمح بتغيير هيكلها، وفي أحسنها استبطان لكون التغيير الفوقي على مستوى الأشخاص قادراً على إحداث الفرق. ورغم أن الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب طرح رؤية متقدمة للوصول للسلطة تبدأ من القواعد، إلا أن هذا الطرح الذي يعتمد على انتخاب جماهيري لمجالس تشريعية من مستوى الأحياء والقرى، تختار أجساماً تنفيذية من مستوى المحليات وحتى المستوى المركزي، سيصطدم بعقبات حقيقية تجعله غير واقعي الآن.
من العقبات الموضوعية أن الخدمة المدنية ومؤسسات الدولة الأخرى في السودان منهارة، وأن هيكلة الدولة وأجهزتها الحالية ستأتي بأشخاص غير قادرين أو غير راغبين في تغيير الأوضاع بصورة شاملة. فالطبيعة المركزية للسلطة والدولة تسمح للقوى السياسية التقليدية (شبكات وتحالفات الأحزاب السياسية والقوى العسكرية والمليشياتية ورجال الأعمال ورجال القبائل ورجال الدين) بالإبقاء على طبيعة السلطة والدولة القائمة على تحالفات مصالح هذه القوى، مع قليل من التجميل.
يستطيع الحزب الشيوعي مثلاً أن يتذكر ويذكر بمصير حكومة ثورة أكتوبر 1964. فأحسن سيناريو للوصول للسلطة حتى لو عنى أن يشترك فيها الحزب الشيوعي لن يكون بأفضل من حالة تلك الحكومة التي حلت بعد أشهر قليلة دون أن تحقق شيئاً يذكر من شعارات ثورة أكتوبر، ويمكن استشفاف تاريخ شبيه بحكومة الفترة الانتقالية الأولى التي كان مجرد الشك بشيوعية بعض أفرادها سبباً لمهاجمتهم والتآمر عليهم وتحميلهم والحزب الشيوعي مسؤولية إخفاقات ثم انهيار الحكومة الانتقالية والانقلاب.
(يتبع)

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 0 / 5. Total : 0

كن أول من يقيم هذا المقال