‫الرئيسية‬ مجتمع اتكاءة تراث: الجرتق السوداني
مجتمع - منوعات - 1 فبراير 2021, 11:30

اتكاءة تراث: الجرتق السوداني

د. مزاهر القدال

الجرتق عادةٌ سودانيةٌ قديمة، يتميز ويتفرد بها الفرح السوداني، تتم تحت طقوس معينة بأدوات خاصة بها، وفي وقت معين. ويُعتقد أنها عادةٌ تجلب الفأل الحسن والخصوبة، والحماية من العين والأرواح الشريرة . هذه العادة أكثر ظهوراً في مراسم الزواج، وأحياناً عند ختان الصبيان.

أصل كلمة جرتق:

كلمة جرتق إرث من اللغات المروية القديمة، مكونة من اللفظ المروي (Qor) والتي تعني (الملك)، بالإضافة إلي اللازمة (Tig) والتي تعني  يفعل أو يجعَل، وبذلك تصبح لفظة (Qortig و Jartig) بمعنى يجعله ملكاً. وبطقوسها وأدواتها ينصب العريس ملكاً في ليلة زواجه .

مناطق ممارسة  الجرتق:

تنحصر عادة الجرتق في المنطقة وسط و شمال السودان النيلي، وكذلك في منطقة النوبة، كما أنها رصدت عند المجموعة الجعلية التي تشمل: الجعليين، والرباطاب، والميرفاب، والمناصير، والشايقية.

ولم ترصد هذه العادة عند القبائل البدوية مثل: البجا، وبدو كردفان، ودارفور، والبدو الآخرين في الوسط، والمجتمعات الأخرى في جبال النوبة، وفي جنوب السودان. وتوجد في المدن وفي مجتمع (الجلابة) المهاجرين من مناطق الشمال النيلي.

أدوات الجرتق:

تتمثل في: (العنقريب)، و(صينية الجرتق)، و(السيف)، و(السوط)، وكذلك لبس العريس والعروسة.

العنقريب:

(العنقريب) في الموروث السوداني يرتبط ارتباطاً كبيراً بجلوس الحكام، والذين يشار إليهم بـ (أصحاب العنقريب)، في مقابل صاحب (التبروقة) (السجادة) للشيوخ الدينيين.
وهو سريرٌ  من الخشب يزين ويلون بالأحمر والأصفر، وبرسومات خاصة، يفرش عليه برش ملون يعرف بـ (عتنيبة)، وسجاد يغلب عليه الأحمر أو ملاءة ملونة بالأحمر.

صينية الجرتق:

تحتوي  على أوان خشبية في الغالب أو معدنية، تعرف بـ (الحُق)، وتوضع عليها عطور سودانية، خاصة فيما يعرف بـ (الضريرة) أو (الذريرة)، وهي عبارة عن مسحوق الصندل والمحلب والمسك. كذلك تحتوي على (الربعة) و( مبخر) به بخور صندل، وآخر به بخور تيمان وسلاسل وأساور وخواتم خاصة بالجرتق، أبرزها (سبحة اليسر) وهلال ذهبي وحرير أحمر ناعم.

وهناك اعتقاد بأن لبعض المعادن مثل الذهب والنحاس والحديد؛ خواص في طرد الأرواح الشريرة، وكذلك الأحجار الكريمة والخرز، وبعض من الموروثات القديمة مثل (الجعرانة)، وهو حجر منحوت في شكل خنفساء أو (جعران).

هذه هي المواد التي تشكل محتويات (صينية الجَرْتِقْ)، بالإضافة للعطور النفاذة، يعتقد بأن لها خاصية طرد الأرواح الشريرة، وجلب الأرواح الخيرة لحماية العروسين في هذه اللحظات المهمة، ولا يعتبر الجَرْتِقْ كاملاً إلا إذا توفرت جميع هذه العناصر.

لوحظ اللون الأحمر الطاغي على إجراءات الجَرْتِقْ، فالبرش الأحمر ولبس (فركة القرمصيص)، و(الحريرة الحمراء) و(الحُق) و(الربعة) و(حَجَر الدم)، ويعتقد أن اللون الأحمر الذي ينبع من كونه لون الدم أساس الحياة الذي تستهدفه الأرواح الشريرة.

زي العرسان:

يرتدي العريس زياً شعبياً خاصاً يعرف بـ (السُّرتي)، ويتوشح بالسيف، ويمسك بيده سوط العنج، وعلى جبينه هلال يتلألأ، وعلى معصمه حريرة حمراء.

أما العروس فترتدي فستاناً أحمر من خامة ناعمة، ويزين شعرها بـ (الجدلة)، وهي شعر عليه بعض من المعادن الذهبية أو الفضية، تتمثل في قرط كبير يعرف بـ (القمر بوبا)، أو (الفدو)  (الزمام) على الأنف وأساور كبيرة  على اليدين الاثنين، وسوار على الرجل يعرف بـ (الحجل)، وثوب يعد خصيصاً لهذه المناسبة وكذلك (القرمصيص).

كيفية أداء طقوس الجرتق:

يتم هذا الطقس المتفرد؛ والذي يتوج فيه العروسان ملكاً وملكة؛ بإجلاسهما متقابلين على عنقريب الجَرْتِقْ المخصوص، وتكون العروس على شمال العريس، وتشرف على ذلك النساء كبيرات السن من خالات وعمات العريس. وكذلك تشارك أخواته وبعض قريباته اللائي يتمتعن بصفات خاصة.

هذه اللحظات تعتبر من اللحظات المحاطة بقدر كبير من الجدية والصرامة، وتختلف الطقوس من منطقة إلى أخرى، ولكن جميعها  تتفق في وضع الضريرة على رأس العرسان، وإلباس العريس سبحة اليسر ثم العروسة.

وفي بعض المناطق تبدأ الطقوس بإحضار طفل ذكر حديث الولادة، ويشترط فيه أن يكون في صحة جيدة، وأبوه وأمه أحياء ويتمتعان بتوافق وحالة طيبة في زواجهما. يوضع الطفل في حجر العريس حيث يقوم بتبادله مع العروس لسبع مرات، ويقال في هذه الحالة: “تغلبا بالمال وتغلبك بالعيال”.

ثم يقوم العروسان بتبادل إناء من اللبن المسمى (العُمرة)، ويتم تبادل هذا الإناء والاحتساء منه لسبع مرات، وفي المرة السابعة يقوم الشخص المنتهي عنده الإناء (ببخ) الآخر باللبن، وغالباً ما يحرص أن تكون المرة الأخيرة عند العروس.

ويؤتى بطبق (من السَعف) فيه كمية من حبوب القمح، والذرة، والسمسم، واللوبيا، والبلح وغيرها من الحبوب المزروعة في المنطقة، ويتم تبادل الطبق بين العروس والعريس لسبع مرات، وفي بعض المرات تؤخذ حفنة من هذه الحبوب ويتم تبادلها من يد العريس إلى يد العروس، وتعيدها العروس إلى يد العريس، ويتبادلانها لسبع مرات، وفي المرة الأخيرة يتم تشتيت هذه الحبوب على العريس أو العروس وعلى الحاضرين.

ثم يتم قطع الرحط، وهو خيط من الحرير يزين بالحلوى والبلح، يربط عند خصر العروسة، ويقوم العريس بقطعه ورمي الثمار على الحضور في جو بهيج، تختلط فيه الزغاريد وصيحات الفرح مع نفحات العطور والبخور،  ويقوم العريس في خطوة أخيرة برش الحضور بعطر غال مميز لتكتمل الفرحة.

تصاحب طقوس الجرتق الأدعية والتعاويذ التي تقال لدرء العين: “دقر يا عين”. أو يطلب فيها عون النبي صلى الله عليه وسلم، أو بنته فاطمة، أو الملائكة. وهناك اغان خاصة بالجرتق تسمى (البنينة) وتعتبر إرثاً فنياً قائماً بذاته.

ومع تطور عجلة الحياة ودخول طقوس أخرى على مناسبات الزواج السوداني؛ اختفت بعض الطقوس، ولكن الجرتق ما زال محافظاً على مكانته الفريدة، خاصة عند الأسر الكبيرة التي ما زالت تحتفي وتحتفل بالعادات والتقاليد السودانية المميزة السمحة.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 4.7 / 5. Total : 14

كن أول من يقيم هذا المقال

تعليقان

  1. يسلم يراعك يادكتورة لقد اوفيتي وكفيتي حقيقة ذكرتيني باشياء في الجرتق كانت تعمل في الماضي الان اندثر منها الكثير لكن الاحظ في الكثير من الاسر المتمدنة بدأت تظهر تقوس الجرتق من جديد .في شي ماذكرتيه في سبرة بتتم العريس قبل الجرتق وبسيروه للبحر وقطع جريد النخل دي بالنسبة للناس الساكنة بالقرب من النيل

  2. حيا الله الدكتوره الأديبة مزاهر القدال ودوما متألقة بمواضيع رائعة ومتجددة،،، شكرا لك على اثرا ساحاتنا الأدبية بنهحك المتفرد كما أنت دوما فلك منا أطيب الامنيات بدوام التوفيق

‫التعليقات مغلقة.‬