لمسة …عناق
خالد العربي
من المعلوم حجم الأزمات التي يُعاني منها السودان؛ فخلافاً للأزمة الاقتصادية, هناك أزمة هُويّة وهُوّة مُجتمعية بين مُكوّنات المجتمع السوداني (بأقاليمه الخمسة، واتجاهاته الأربعة). هذه الهوة إن لم تُردم، فلا سلام حقيقي. في الماضي، ساهمت حركة التنقلات في التعليم، والصحة، وحركة التجارة، وعملية نقل مواد التعاونيات، في تقريب الشُقّة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، وخلقت ترابطاً اجتماعياً مُتوازناً، لا يتَّسق ومبدأ العنصرية والجهوية والقبلية. عُرِفَتْ تلك النشاطات بمُكوِّناتنا الثقافية وكادت أن تنتهي، إلا أن ما أتى به نظام الإنقاذ أو (الإسلامويين) في عهدهم البائس، كسر العديد من الروابط، وباعد بين مكونات المجتمع، فتولَّد الحقد والغبن على الصعيدين السياسي والاجتماعي.
تلك الممارسات، شئنا أم أبينا، صنعت واقعاً يحتاج لتصحيح أولاً، ولا يتأتّى لنا تصحيحه، ما لم تتحقَّقْ عدالة حقيقية تُلامس شغاف المجتمعات المُتضرِّرة، وليست العدالة بالقصاص وحده، أو زجِّ بعض المُجرمين في غياهب السجون، وإنما بالعمل كتفاً بكتفٍ مع ابن الشرق، وابن الغرب، وابن الشمال، وابن الجنوب؛ أن يستشعر الجميع أنهم مواطنون حقيقيون في هذه البلاد، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، بغضِّ النظر عن ألوانهم وأعراقهم وأديانهم وجهاتهم. ولكي يشعر المواطن بأنه مواطن درجة أولى، وإنسان بالمقام الأول، يحتاج إلى “لمسة عناق”، ولن يكون لهذه اللمسة معنىً عبر الأسافير أو من خلال الخُطب الرنَّانة، والشعارات السياسية الجوفاء.
إن إنسان اقصى الهامش، سواء كان هذا الهامش داخل العاصمة أو على أحد حدود السودان، هو إنسانٌ يبحث عن ظل ظليل وآمن ومواساة ولقمة هنيئة يُسدُّ بها جوعه، وجرعة ماء نظيفة يُطفِئ بها ظمأه. ذاك الإنسان يأكل غير ما نأكل ويشرب من (الجُمَّة) وهو يستجدي الرمال الرطبة أن تجمع ماءها.. ذلك الإنسان يحتاج لأن نشعر به، وأن نُشْعِرَه بمكانته، ودوره في عمار هذه الأرض، وتطوير قدراته ومواهبه التي يجهلها أغلبنا. فكما ينبهر هو بما يراه في قلب العاصمة الخرطوم، سننبهر نحن أيضاً بمقدراته، وهو يتعامل مع الطبيعة، غير أن معاناته تجعله بعيداً كل البعد عن ماهية (المواطنة).
أتعجّب.. إذ بمجرد سقوط الطاغوت، وخلع النظام، تبارى الجميع باحثاً عن كرسيٍّ بين ردهات هذا الحكم الجديد القديم، مُتناسين أهداف ثورة ديسمبر المجيدة الرامية لبناء وطن حقيقي. كنت أتلمَّس الأخبار هنا وهناك، بغية أن أجد حزباً، أو كياناً مدنياً، أو عسكرياً، يُوظِّف كوادره نحو رفعة الشعب، وتلمُّس مشكلاتهم، ورفع قدراتهم. لم أجد قافلة ما سواء كانت طبية أو تنموية أو توعوية تنطلق من القلب للأطراف، لتُغذِّي إنسان المناطق المُهمَّشة والمُتضرِّرة من سنين الحرب، بتقديم الوعي والغذاء والكساء ولمسة العناق، ينفضُّ من خلالها غبن سنين وألم غربة ووحدة داخل حدود وطنه وأرضه. تلك الغربة كانت سبباً في الاقتتال بسبب أو دونه، فماذا لو كسرنا هذه السنوات، بقوافل تترى، وقافلة إثر أخرى، بعضها يقدم الوعي، ويُطوِّر القدرات الفردية والمجتمعية وفق الموروث الثقافي، وأخرى تُقدِّم الدواء، والكساء، والوفاء، وعدالة اللقاء؛ لننزل إلى أرض الواقع.. لنمضي بين الجوعى والمكسورة قلوبهم.. لنطبق العدالة بينهم.. لنصنع الفارق الذي نريد باسم ثورة ديسمبر المجيدة.. فلمسة العناق ليست بالضرورة أن تكون (مقالدةً) واحتضاناً، لمسة العناق قد تكون بتضميد جرح، أو بتقديم وعي، أو بهمسة طبيعة. لمسة العناق وبسمة العدالة بهما يستديم السلام.