
تاجو .. و مزاجو – 2 –
(عبدالله محمد عبدالله)
إن كان هناك من يظن أن كتاب ( شئ من الفن) هو كتاب عن الفن، نقداً، توثيقاً او تأريخاً و بحثاً اكاديمياً، فقد قصرت افكاره عن تصور هذا الكتاب.
فالكتاب الذي يحمل عنوانا مألوفا للقدامى منا، قراء عمود عبدالرحمن ابراهيم ( شئ من الفن) في صحيفة السوداني و الذي تولاه تاج السر من بعده، هو كتاب يعرض فيه تاجو شذرات من تاريخ الموسيقى و الغناء جاهداً في وصف ما لا يوصف إلا بجرأة الخروج باللغة عن مألوفها. تناثرت تلك الشذرات بجوار قصص عن اهل الفن و سيرهم و لمحات من التاريخ العام و الأحداث ذات الدوي، و غير ذلك، و اللحظات ذات الخصوصية و الفرادة.
إلا ان الكتاب في حقيقة الأمر كتاب عن مسيرة مؤلفه تاج السر حسن الملك، عن طفولته و صباه و شبابه و كهولته التي قضاها منغمساُ في غواياته و هواياته المتعددة التي لم يدّخر جهداً في تطويرها و صقلها غير آبهٍ بأقداره التي ساقتة إلى أصقاع تباعدت و مقار تنوعت، في خطى قادته بواكيرها و انتهت به أواخرها الى ماهو فيه الآن، مصوِّراً محترفاً و كاتباً يكتنز في حافظته الفسيحة كل ما مر به و ما مر به سواه، ثم انتقى من معارفه و خواطره ما ضمّنه كتاباً اكتفى فيه بأقل القليل قائلاً عنه في تقدمته إنه (غيضٌ من فيضٍ لن تسعني مجلداتٌ لكتابته).
و لتاجو نظر في كل ما تناول، و إبانة لا تخطئ مراميها، و قدرة على مخاتلة قارئيه بمقدمات تقود إلى نهايات تكذّب توقعاتهم، فكأنه يتعمد إدهاشهم خلال تنقلهم بين تلك البدايات و النهايات بسطور تذخر بآيات من السرد المتقن الذي حوى (كل مستظرف و مستطرف)!
وللحقيقة اقول إنني قد وجدت تاجو مشابها لي في أمور كثيرة. فقد كنتُ متابعاً لحلقات (اغنيات في السباق) الأسبوعية التي كان يقدمها عبدارحمن زياد من اذاعة صوت اميركا، الى جانب برنامج (نادي الجاز الاميركى) و كان تاجو يفعل الشئ ذاته رغم تباعد الأماكن، فقد كنت في تلودي بجبال النوبا و كان هو في مدني. إلا أن ما فوجئت بمعرفته خلال تصفحي للكتاب هو ان الأستاذ الإذاعي الراحل عبدالرحمن زياد هو من مواطني ودمدني وليس شامياً او مصرياً كما قد ظننت، بل إن تاجو، لسعادته، قد التقاه في اشنطن!
ظللت شغوفا بالروك و السول و الريغي و كان تاجو مستمعاً شديد المواظبة. و قد أحالتني فقراتة المحكمة عن كيف استقبل تلك الاسطوانات الني جاءته بها شقيقته ختمة من بريطانيا، إلى لحظات استقبالنا اسطواناتٍ مشابهة جاءت بها صديقة لنا من لندن، كانت أعلاها سهماً اسطوانة Exodus لبوب مارلي، التي تناولها تاجو في كتابه، فكأننا كنا معاً في اجواء السبعينات تلك. لكن معرفته بعباقرة الموسيقى الغربية المعاصرة و اغانيهم تتخلل كتابه بصورة تحعل منه سِفرا كوزموبوليتانيا لا تحده الجغرافيا و لا يعيقه اختلاف الأنماط و اللغات. ففي فصوله التي فاقت الثلاثين عدداً يعبُر تاجو المسافات و الأزمنة عبور الواثق المطمئن في حميمية صادقة و سخرية لاذاعة. فأنت واجدٌ في تلك الفصول وردي، كابلي، عركي و رهطا من زملائهم، ثم انك مطل على عوالم صلاح خليل، عامر ساكس و ود الحاوي، قبل أن يعرج بك الي ستيفي وندر، جيمس براون و مايكل جاكسون و البي جيز و غير هؤلاء و أولئك.
نواصل.