‫الرئيسية‬ ثقافة القدِّيسةُ وأثرُ القُبْلةِ
ثقافة - سرد - 9 مايو 2022, 9:02

القدِّيسةُ وأثرُ القُبْلةِ

بدر الدّين حمزة

عادت الخيول تجر خلفها الشمس المتماوتة..
تتقدمها مهرة صغيرة عنقها أطول وقوائمها كبياض الثلج .. وجسدها يموج في ألوان متنافرة متجاوبة كقطعة موسيقي سقطت من
الحقل الذي هرب منه العبيد كلهم والأمراء، فبكى يندب حظه عند الغروب ..
الشيخ الذي صنع لنا قهوة الأصيل من الأعشاب البرية
قال وهو يشير الى المهرة ” عادت …. الماكرة ”
سبقت مولدها قال إشارات من السماء والأرض …
استحلبت السماء يومها آخر قطرة من مطر ..
وانشقت الأرض في ميدان البهاليل عن حدث فريد!
قبل هطول المطر ..
احتشد الميدان بجمع من الأطفال يطاردون كرة تشبه رأس جارنا (س) … ولجارنا هذا رأس يضرب به المثل في قوة الصد و(المكاجرة) .. ينطح به صخرة فيفلقها ..
الميدان كان يتوسط الحي بالإضافة لملعب الكرة به مخبز ومسجد ونقطة لبسط الأمن الشامل وسقائف لبيع اللحوم والخضر و كشك لبيع التمباك والسجائر .. وطاحونة الحي التي احتلت موقعها عند (الركن البعيد) …
وفي الركن البعيد .. نسوة كأفراس البحر ..
شددن خلف ظهورهن بأنسجة تغطي أجسادهن النحيلة الرشيقة ولدان سقطت منهم الرؤوس، تتلاعب بهم حركة الأجساد والأيدي التي تنثر البذور للريح ثم تعيد التقاطها ..
فتحمل الريح الأغشية التي تغطي البذور وما خالطها من هباب واعتلق من طينة الأرض السوداء ..
تفصل مفرزة الريح وترد كل مادة إلى مستقرها، ما للناس للناس، وما للهوام تغتصبه الهوام أو تنتظره على مشارف الاحتفاء بالخلاص!
همست عاملة في أذن جارتها ولمزتها (… ألحقى يمة هووي… بِتِّكْ مسكت ضهرها)
تحركت الأم المقعدة وسحبت جسدها على الأرض .. خلعت ثوبها ..
وسري نزع الثياب ..

شدّت كل واحدة من النسوة ثوبها من طرف وأمسكت بطرف من ثوب جارتها ..
صنعن علي عجل سياجاً شفيفا متعدد الألوان لا يحجب ما بداخله ولا يكشفه كله!
داخل السياج .. استلقت البنت وباعدت ما بين فخذيها .. الأم الكبيرة المقعدة وامرأة أخرى فارعة القوام صلبة كمصارع من القرون الوسطى تنتهر البنت التي تتفلت لكن أين الفكاك؟!
خارج السياج .. وجوه ورؤوس تستطلع .. وأخرى مشرئبة .. أطفال وعابرو سبيل ..
رجال ونساء ..
صرخت البنت صرخة هزّت أعمدة المكان ..
وارتفعت خلف صرختها الداوية صرخة طفل وليد ..
حملته الأم الكبيرة .. وزغردت ..
وزغردت خلفها المرأة التي تشبه مجالدي العصور الوسطى … والنسوة في السياج وخارج السياج الشفيف ..
كبّر الرجال وهللوا ..
خرق السياج طفل يحمل الكرة التي تشبه رأس جارنا ( س) في كف وقطعة حلوى نصف مأكولة وضعها في كف الأم الصغيرة ودخل خلفه آخرون كل بما جادت به اللحظة يمد يده وما توافر من مكنون الصدور المنبهرة المتصلة بعناصر المكان!
أمام المنزل المواجه للميدان ..قبل سقوط الشمس، وقف رجل له لحية مهذبة وجلباب ناصع البياض .. طرق الباب وارتفع صوته الجهور بالسلام ودخل ..
وجد بالداخل فوج من الرجال مستعد لصلاة الغروب ..
خلع نعله وتقدم الصفوف ..
كبّر تكبيرة الإحرام ..
كبّر خلفه القوم ..
سلّم فسلّموا!

سأل عن المهرة .. أشار الجمع إلى مربط الخيول .. تقدم نحو المهرة التي كانت تدور داخل الحظيرة .. قبيل دخوله كان عمّال البناء .. البناؤون .. فرغوا لتوهم من رصف عتبة جديدة للدار ..
عتبة لينة جديدة ..
لم ينتبه لجدتها وضع خفّه الثقيل على العتبة فانطبعت قدمه المباركة الكبيرة علي مدخل الدار ..
وضع كفه على ظهر المهرة ومسح علي عنقها ..
طبطب على ظهرها .. ولاطف عرفها البديع ..
أدخل يده في باطن جيبه وأخرج مسبحة تلألأ المكان من بريقها ..
مرر كفه على عنق المهرة الرشيقة مرة أخرى … بهدوء وضع عنق المهرة في الحلقة الجوفاء المنيرة ..
وسحبها فطاوعت وانقادت خلفه ..
أمام بوابة السياج سأل الحاضرين بصوته المتبتل الخفيض :
هل لنا حظ من المحاولة والتجربة؟
همهم الحاضرون .. نعم .. نعم ..
امتطي صهوة المهرة وانطلق ..

سأل الطفل الذي يحمل الكرة التي تشبه رأس جارنا ( س) :
إلى أين انطلق ..
وهل … عاد؟
والمهرة؟!

همهم الحاضرون :
أثر .. نعله المبارك العميق ..
هنا .. هنا …أثر النعل يا بني .. هنا هنا!
نهضت قابلة الحي .. مسحت بكفها على رأس الصبي، ضغت بأصابعها الرشيقة على صدغه!
أمسكت القابلة بيد الصبي ثم سحبته خلفها حتى توقفت عند جرّة الماء في ركن السقيفة … طبعت عند نقطة انعقاد الدهشة بين حاجبيه قبلة عميقة!
وقف الصبي برهة يطالع صورة وجهه المنعكسة داخل الجرّة .. تناول القدح .. سكب الماء في أنبوب شفاف أخرجه من باطن سرواله .. أطاح الكرة في الهواء ثم ركلها بقوة … همهم الحاضرون وحوقلوا .. تقدمت القابلة وتوقفت عند عتبة الدار .. سكبت فضل شراب الصبي في حفرة النعل على العتبة ووقفت تطالع وجهها .. ثم خرجت تجرجر الريح خلفها كلسان أعجمي مبين!

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 0 / 5. Total : 0

كن أول من يقيم هذا المقال

تعليقان

‫التعليقات مغلقة.‬